IMLebanon

حول الحاجة لجبهة وطنية لمواجهة الاحتلال

 

 

«يوم كانت كلماتي غضبًا كنت صديق السلاسل، يوم كانت كلماتي ثورة كنت صديق الزلازل، يوم كان كلامي حنظلًا كنت صديق المتفائل، يوم صار كلامي عسلًا غطّى فمي الذباب» (محمود درويش)

قد تكون مسرحية جبال الصوان بالنسبة لي أعظم ما قدّم الرحابنة، وهم من قدّم الكثير لهذا البلد في نضاله الثقافي والإنساني. لكن جبال الصوان تأخذ بعدًا واسعًا من الرؤى في المقاومة التي تستند إلى ثقافة الفرح، وهو الوحيد الذي يقاوم العتمة واليأس، من خلال السعي لتغيير المزاج العام المستسلم وإعلان الرفض للأمر الواقع. في المسرحية صرخة في وجه القوة الغاشمة، المستندة إلى القتل والترهيب، لمواجهة الاستسلام لها ورفض مبدأ إعلان فقدان الحيلة للصمود. ملحمة جبال الصوان تبدأ منذ اللحظة الأولى مع زعيم المقاومة «مدلج» الصامد في وجه «فاتك المتسلّط» وجيشه، رافضًا الهرب أو الاستسلام أو التوسل ليحفظ حياته. لكن الخوف الذي دخل إلى قلوب أهل القرية جعل مدلج وحيدًا يقاوم إلى أن سقط على البوابة. حكم بعدها المتسلّط بالخوف والحزن وفقدان الأمل وبملابس الحداد. «غربة»، إبنة مدلج، أتت لتبعث الفرح والأمل بقلوب الناس، حتى واجهوا اليأس بالفرح والأعياد والملابس الزاهية الألوان، لأنّ الحزن يدفع للخنوع ويدعو إلى تفادي الأعظم، أما الفرح فهو عدو الطغيان. عندما يئس أهل الضيعة من الحزن المصحوب بالعجز، ذهبوا إلى الثورة على الطاغية الذي فرض عليهم الأمر الواقع الوهمي، فأسقطوه ودفعوه للفرار خوفًا على حياته.

لا بأس أن يجنح الناس نحو السلم بدل القتال المستمر، فكما يقول «توماس هوبس»، أعظم فيلسوف سياسي، صاحب مقولة «الإنسان ذئب للإنسان»، بأنّه بالرغم من عدائية البشر المتأصّلة في تكوينهم، لكنه في ظلّ فوضى الحرب وعدم الأمان، وبهدف الحفاظ على الذات من عدائية الآخر، يلجأ البشر إلى تسويات مجدية، تجعل من بناء المجتمع إمكانية قابلة للتحقيق. يرى هوبس أنّ الوسيلة الوحيدة لتأمين نشوء المجتمعات، والخروج من حال الطبيعة حيث كل واحد عدو للآخر، يكون من خلال الاعتراف بسلطة ومرجعية واحدة لاستعمال العنف المشروع. بالترجمة العملية، الحل للخروج من حال «كل مين إيدو إلو»، هو أن تكون هناك يد واحدة فوق الجميع، بالأخص بما هو متعلق بالأمن.

من هنا، فإنّ سقوط الثلاثية الغبية، بعنوانها «شعب وجيش ومقاومة» يعود إلى كون أنّ ما سُمّي بالمقاومة لا علاقة له لا بالشعب ولا بالجيش! بالمحصلة، فإنّ السبيل الوحيد للحفاظ على الاستقرار يكون بتوحيد مرجعية سلطة استعمال السلاح في هيئة واحدة، أي في الدولة. هنا لا فرق في نوعية الحكم، فقد شدّد هوبس مثلًا على نظام يتسيّده طاغية لا يوجد من يحاسبه حتى بالقانون على أساس أنّه السبيل للحفاظ على النظام، لكن سلطة الطاغية لا تنبع من الماورائيات ولا من المقدس، بل من الحاجة الملحّة للبشر، الذئاب بطبعهم، لأن يعترفوا بسلطة ذئب أعلى عليهم، تنظّم وتردع طباعهم وتوجّهها لخدمة الاستقرار والسلام، وأحيانًا لتنظيم الحرب.

«شعب وجيش ومقاومة» ثلاثية أنتجت غياب السلطة المرجعية، وكان من السهولة بمكان فضح سخافة هذه الثلاثية لو تجرأ أحد على طرح سؤال بديهي واحد وهو «من يقرّر إذًا في إدارة العنف والتنسيق بين أطراف الثلاثية؟».

ببساطة كان الجبن واستسهال الأمور، سعيًا وراء السلطة أو خوفًا من السطوة، هو ما ساهم في تواصل الغباء وتراكمه طبقات فوق طبقات في بيانات الحكومات المتعاقبة، التي تخلّت عن أهم واجباتها وهو احتكار سلطة استعمال القوة المشروعة. فكون هذه الثلاثية مذكورة في البيانات الوزارية لا يجعل من السلاح التابع لإيران حرًا في التحرّك أو شرعيًا يأخذ القرار في شن الحروب الإقليمية والدولية، ولا حتى في القرار الأحادي في مواجهة إسرائيل في حال الاعتداء من دون قرار من الدولة. فمصلحة الدولة العليا لا يمكن للميليشيات المرتبطة بحسابات خاصة بها أن تديرها حسب مزاجها ورؤياها.

على مدى عقود، أوقعت هذه الثلاثية لبنان وشعبه تحت نير احتلال مقنّع، بعد أن جبن أصحاب الحل والربط عن تسمية الأمور بأسمائها، لمجرد المشاركة بفتات السلطة والتغاضي عن الفساد الذي أوصل الناس إلى قعر جهنم من دون أمل بالرحمة والغفران. «أسياد لبنان»، كما قال أحد قادتهم على مدخل باب قصر «الوالي بالوكالة»، لا يمكن أن يتخلّوا بحوار أو بشفقة أو حس وطني عن السلاح الذي جعلهم يتسيّدون علينا، متسلّحين بوهم الخوف من الموت أو فقدان المكتسبات. بدء الخروج من قعر هاوية الجحيم لا يمكن إلّا أن يُستهل بإعلان كسر حلقة الخوف من تسمية الأمور بأسمائها من دون مواربة أو مهابة، فنحن الغرقى لا خوف علينا من البلل، فلن نخسر شيئًا إلّا الأغلال التي تطبق على أنفاسنا وتُدمي معاصمنا.

الجبهة الوطنية لمواجهة الاحتلال الإيراني هي القطرة في أول الغيث، لكن المطر الذي يتحول إلى طوفان يحتاج لأن يعلن الجميع المشاركة في المواجهة، متخلّين عن فتات السلطة والكسب الحرام.

ببساطة، علينا أن نتوقف عن قول الكلام المعسول، فقد غطّى أفواهنا الذباب المتنقل بين أكوام النفايات المتراكمة وأقنية الصرف الصحي التي فجّرتها الأمطار. فمن أجل ما تبقّى لنا من وطن، علينا انتشال رؤوسنا من الرمال والذهاب لمواجهة الواقع، وهو أنّ السكوت على الشذوذ يدعم استمراره.