IMLebanon

بويا بويا

 

تحت عنوان”حرصاً على الكرامة” كتبت صحيفة “النهار” في عددها الصادر بتاريخ 18 آذار 1965، وعلى “الأولى”، إلى جانب صورة كبيرة لماسح أحذية منكب على حذاء رجل أنيق قاعد على كرسي، هذا الخبر: “أثبت وزير الداخلية وجوده أمس كما لم يفعل قبله… إذ أصدر قراراً مُنِع بموجبه مسح الأحذية في الأماكن العامة إلّا إذا خلعها أصحابها من أرجلهم”، وقال “مصدر” في الوزارة أن الغاية من القرار هي حفظ كرامة ماسحي الأحذية عن طريق منع مد الأرجل لهم لمسح أحذيتهم.

 

وتحت الصورة كتب المحرر، وقد يكون غسان تويني نفسه، “كرامة أخرى تهدر بانتظار أن يحفظها الوزير…”.

 

الوزير كان اسمه تقي الدين الصلح، ومن تولى “الداخلية” قبله كان الحاج حسين العويني.

 

قبل 55 عاماً كانت لكرامات اللبنانيين، بمعزل عن مستواهم الإجتماعي، قيمة واعتبار، وتشغل مسألة صونها حيزاً كبيراً من اهتمام الوزراء. وعلى سيرة “البويجيي” أذكر، وبصورة ضبابية، وقوفي ذات يوم أمام محل، في مكان ما من وسط بيروت، محلّ مفتوح من الجهتين وفيه صفّان من الكراسي مثبتة على علو متر من الأرض تقريباً، وأمام كل كرسي ماسح أحذية، قاعد على “مجمع” سمنة صدئ، ومنهمك في تنظيف فردة حذاء ودهنها وتلميعها مع الحرص الشديد على نظافة كلسات الزبون، أما الزبون فيبدو وهو يرتشف شايه أو الكازوزة وكأنه وافد من طبقة أعلى من طبقة من اتّسخت أيديهم ووجوههم وثيابهم. شعرت بشيء من الخجل والإشمئزاز، لكنني في بيتي كنت “بويجياً” رشيقاً وأنا أمرر الفرشاة على “البوط”، ثم القماشة الناعمة، بعد وج “دهن اللوز” مقلداً أصوات ماسحي الأحذية “بويا بويا بويا”.

 

وأنا صغير، اُخبِرتُ عن بويجي من زمن الستينات، ربح جائزة اليانصيب الكبرى وكانت تبلغ قيمتها بحسب شفيق جدايل 25 ألف ليرة. لشدة فرحه خلع ثيابه البويجي وأحرقها وهو يردد: “خلصت من هالمصلحة” لينتبه بعدما تحولت ثيابه إلى رماد أن الورقة الرابحة كانت في جيب قميصه المتسخ. عاد إلى مهنته وكان هناك في الوزارة من يحترمه!

 

وأنا فتى، سمعت نصري شمس الدين، يغني في مسرحية “لولو”، راسمالنا شوية لون وصندوقة وفرشاية/وصوتي داير هون وهون دايماً رايح جاي

 

فترد جورجيت صايغ:

 

خايفة عليك تكون عشقان

 

وداير عبواب النسوان

 

نصري: ولوه مين بده يلفّي طفران؟

 

لعب شمس الدين دور البويجي وبقي في الذاكرة من أسياد الأغنية والمسرح، ولعب الرئيس البرازيلي السابق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا ( 2003 – 2011) دوراً كبيراً في تغيير وجه البرازيل، وهو من اضطر في طفولته إلى ترك المدرسة والعمل كماسح أحذية.

 

وهنا وحدهم ماسحو الجوخ، يتسلّقون المراتب ويحظون بالمناصب، وبالنسبة إلى الكرامات الإنسانية، فصارت أشبه بممسحة أحذية.