IMLebanon

الدولار القوي يُهدّد استقرار الاقتصاد العالمي

في آخر تقرير له الأسبوع الماضي حذّر بنك التسويات الدولية (BIS)، المعروف باسم البنك المركزي للمصارف المركزية، من عواقب الدولار القوي على الأسواق الناشئة. أضاف (BIS) انّ هنالك علامات متزايدة تشير إلى هشاشة الأسواق المالية على رغم الآمال المتجددة في انّ الاقتصادات العالمية متجهة نحو النمو، مشيراً إلى ما حدث من توتر في أسواق الأسهم الأميركية.

دقّ صانعو السياسة المالية العالمية ناقوس الخطر من انّ دولاراً قوياً لا يهدد فقط الأسواق الناشئة انما كذلك الشركات التي تتوجب عليها ديون كبيرة بالعملة الأميركية. لذلك، وفي المطلق، فإنّ دولاراً قوياً يشكل خطراً على الاستقرار المالي العالمي ويوحي بأزمة ديون كبيرة في الاقتصادات الناشئة.

وقد يكون ذلك تكراراً لما حدث في الماضي مع ارتفاع اسعار الدولار، لا سيما في اوائل الثمانينات عندما انعكس ارتفاعه ورطة كبيرة في اميركا الجنوبية، وفي منتصف التسعينات عندما سقطت دول «النمور الآسيوية» مثل قطع الدومينو.

للعلم، إذا ما أخذنا الصين وحدها نراها مديونة بقيمة 1,1 تريليون دولار على رغم انها ثاني أكبر اقتصاد في العالم ولديها ما قيمته 4 تريليون دولار احتياط، وهذا بمثابة درع واق في الأزمات. ولكنّ الصين تعلم علم اليقين ما حدث في آسيا عام 1997-1998 عندما سقطت الحكومات واحدة تلو الأخرى لعدم قدرتها على دفع ديونها ونشأت ازمة ركود كبيرة.

هذا الدرع الواقي من الاحتياط هو أقلّ سماكة في روسيا، والتي لديها 361 بليون دولار احتياط، وهذا نسبي بسبب الديون الخارجية التي بلغت 668 بليون دولار. كذلك هي الحال في البرازيل حيث بلغت قيمة الاحتياط 375 مليار دولار مقابل ديون بلغت 468 مليار دولار. وحسب احصاءات الـBIS فإنّ 63 في المئة من الديون الدولية هي بالدولار، و19 في المئة باليورو، و8 في المئة بالجنيه الاسترليني، و3 في المئة فقط بالين الياباني.

لذلك، وبعبارة أخرى، نرى الدولار هو المسيطر الدائم على الاقتصاد العالمي، ونرى أيضاً أنّ قوة الدولار يمكن ان تصبح مشكلة كبيرة في العالم كله. لذلك، وبالمنطق الاقتصادي السليم، انّ تزايداً في قوة الدولار يشكل ضغوطاً كبيرة على العملات الوطنية وعلى الشركات المستدينة بالدولار الأميركي، وقد تكون الضغوط وحسب التقديرات الاقتصادية حوالى 10 تريليون دولار على الاقتصاد العالمي، والمقترضين الذين استدانوا منذ الأزمة المالية العالمية عندما كان الدولار رخيصاً نراهم اليوم يواجهون صعوبات جمة، وقد لا يكون في استطاعتهم سداد ديونهم. وقد يكون الانهيار الفعلي من هذه الالتزامات غير معروف أو محدد رقمياً، انما من المقدّر ان يكون قسم كبير منها سوف يحتاج الى تسديده بالدولار الأميركي.

والصورة قد تكون واضحة لغايته لا سيما انّ الدولار ارتفع ما نسبته 12 في المئة مقابل سلة من العملات منذ نهاية حزيران الماضي، والتقديرات نحو تحسّنه في العام 2015 هي الراجحة مع تحسّن سوق العمل الأميركي بعد تقرير صدر عن أنّ الوظائف زادت بما مقداره 321,000 وظيفة جديدة في سوق العمل هذا.

واعتبر «كلوديو يوريو» رئيس قسم الاقتصاد والنقد في مصرف التسويات الدولية BIS انه إذا ما استمر الدولار في تصاعده مقابل العملات الأخرى يمكن أن ينتج عنه صعوبة في تمويل الديون وتقييد للظروف المالية، والتي قد تتفاقم إذا ما ارتفعت أسعار الفوائد مجدداً في الولايات المتحدة الأميركية في العام 2015 كما هو منتظر. وأتت هذه التصريحات في وقت بدأ فيه مجلس الاحتياطي الفيدرالي يطرح فكرة رفع سعر الفائدة الرئيسي من مستوى قياسي يقارب الصفر.

لذلك، وفي حين انّ دولاراً قوياً سوف يكون مغرياً بالنسبة للأميركيين المسافرين إلى الخارج، نرى أنه سوف يؤثر تأثيراً خطراً على أجزاء أخرى من الاقتصاد العالمي، لا سيما البلدان التي أنتجت قروضاً بالدولار.

لذلك قد لا يكون من المستبعد التكهّن بأن تواجه الأسواق الناشئة نكسة كبيرة في شأن قيمة هذه الديون وخدمتها. وهذه التكهنات مخيبة للآمال. هكذا يجعل ارتفاع الدولار من الديون المقدمة بالدولار أكثر صعوبة، وهذه هي الحال محلياً ودولياً، لا سيما أنّ عملات اليورو والين والروبل بدأت تراجعها أمام العملة الخضراء.

امّا السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي العوامل التي تساهم في صعود الدولار أمام العملات الأخرى؟ كون أسعار العملات دائماً ما تكون معقدة في أسبابها ونتائجها، ومع ذلك قد تكون التفسيرات بسيطة بالنسبة للدولار الأميركي.

وهذه العوامل يمكن اختصارها بالتالي:

1 – زخم الاقتصاد في الولايات المتحدة الأميركية مقارنة مع الاقتصادات الرئيسية الأخرى وبعد ارتفاع الناتج المحلي الاجمالي في الربع الثالث بنسبة 3 في المئة، وهذا على نقيض اقتصادات منطقة اليورو والصين واليابان والتي أظهرت نوعاً من الركود النسبي خلال فصل الصيف، وعادة الاقتصادات المنتعشة تشهد ارتفاعاً في مستوى عملاتها بسبب تدفقات رأس المال.

2 – مجلس الاحتياطي الفيديرالي قد يكون متوجهاً في العام 2015 نحو زيادة أسعار الفوائد على عكس المركزي الأوروبي والياباني. وإذا أخذنا المنطق الاقتصادي بعين الاعتبار نرى توجّه المستثمرين في العالم نحو استثمارات في العملة التي تعطي فائدة أكبر مما يعني أنه من المنطقي شراء الدولار اليوم للاستفادة من هكذا ارتفاع.

3 – ثورة الطاقة من خلال الصخر الزيتي والذي قد يكون له أثر كبير في خفض العجز التجاري الأميركي، وحسب تقديرات وزارة الطاقة الأميركية فإنّ أميركا تمكنت من استيراد 35 في المئة فقط من الطاقة في العام 2013 وتتجه نحو استيراد 21 في المئة فقط من حاجتها في العام 2015، وهذا يترجم انخفاضاً جذرياً في عجزها التجاري وينعكس ايجاباً على الدولار الأميركي.

هذه الأمور تشكّل ومن دون أدنى شك أهم العوامل التي تساعد على تحصين سعر صرف الدولار، علماً أنّ حركته المستقبلية تبقى رهن عدوانية مجلس الاحتياطي الفيدرالي وإمكانية تحوّله إلى سياسة تشددية من ناحية سعر الصرف (هذا مستبعد وقد يكون التاريخ خير أمثولة لذلك لا سيما العام 1937 حيث وقع المركزي الفيديرالي في الخطأ الكبير وزاد أسعار الفوائد بشكل أطال أمد الكساد العظيم) غير أنّ الأهم من ذلك هو أنّ ارتفاع الدولار ينقل الطلب من الاقتصاد الأميركي نحو اقتصادات العالم الأخرى وهذا تطور سار، لا سيما أنّ دولاً مثل اليابان وآسيا واوروبا بحاجة إلى زيادة في صادراتها والتي ستتأثر حتماً نتيجة ارتفاع سعر الدولار، ما يعني أن ذلك سوف يجعل الاقتصاد العالمي أكثر توازناً وينعكس ايجاباً على مخاطر الأصول في الولايات المتحدة وحول العالم.

وقد يكون السؤال: ما هي أهمية كلّ هذا في وضعية الاقتصاد اللبناني وتأثره بدولار قوي؟ ممّا لا شك فيه انّ دولاراً قوياً يعني زيادة ضغط على العملة اللبنانية ورغم ما لدينا من احتياط في البنك المركزي هذا الضغط قد يكون قوياً نسبياً لا سيما أنّ الاحتياط يشكّل نسبة وإن كانت مهمة، انما تبقى أقل بكثير من قيمة الديون المترتبة علينا وخدمة هذه الديون.

وهذا يعني أنّ المصرف المركزي يجب أن يبقى مستعداً لمواجهة أي احتمال يتأتى عن حركة تحويل من العملة اللبنانية إلى الدولار وتوجه الاستثمارات نحو الدولار الأميركي. وكون العملة اللبنانية ثابتة بالنسبة للدولار الأميركي هذا لا يعني بالمطلق انّ المركزي لن يتدخّل لحماية العملة الوطنية وضَخ دولار اميركي في السوق منعاً لأيّ تجاذبات تنتج عن ذلك.

لذلك، وبالمطلق، وإن كان التكهن بالتحول في العملات صعباً نسبياً، يبقى القول انه ولغاية العام 2015 سوف يكون عاماً قوياً بالنسبة للدولار ويهدد الاستقرار العالمي، لا سيما في الدول الناشئة والمديونة.