IMLebanon

عن وزارة للعدل… لشو؟

 

لِمَ يوجد وزارة للعدل؟ سؤال ينفع مدخلاً لفهم الواقع القضائي في لبنان. ثمّة جملة شهيرة على ألسن الناس في بلادنا: «ما في قضاء». هذه لم تأتِ مِن فراغ. هذه يُقرّ بها «كبار» أهل السُّلطة. إن ألغينا تلك الوزارة، اليوم، فما الذي سيتغيّر بخصوص «العدالة»؟

 

لِمَ قد يطمع أحدهم بوزارة العدل؟ في الظاهر، ليس ثمّة ما يُغري بها. ماليّاً، ميزانيّتها ليست «دسمة». تُشتَم في الشارع، اسماً ومعنى، أكثر مِن أيّ وزارة أخرى. أيّ جهة سياسيّة تودّ أن تحرق سمعتها، باسم العدل، في بلد ليس العدل فيه أكثر مِن نُكتة سمجة؟ إلا اللهم إن عاد زمن المعجزات. ذُكِرت كثيراً، على مدى الأسابيع الماضية، هذه الوزارة في إطار تشكيل الحكومة وتوزيع الحقائب. ما هي هذه الحقيبة؟ الجواب يمكن استنباطه مِن جلسة لمجلس النوّاب عُقِدت قبل نحو سنتين. آنذاك، أسقط رئيس الحكومة سعد الحريري، بالتنسيق مع وزير العدل سليم جريصاتي، اقتراح قانون لتعديل المادّة الخامسة مِن «قانون القضاء العدلي». تلك المادّة، التي لم تُعدّل، تُعطي وزير العدل حقّ «حبس» مرسوم المناقلات القضائيّة (التشكيلات) في درجه. تلك المناقلات، بحسب القانون، يُعدّها مجلس القضاء الأعلى، بالتنسيق مع الوزير، لكنّ الكلمة النهائية (في الظاهر) في حال الاختلاف تبقى للطرف الأولى… فيما، واقعاً، للوزير «حقّ» عدم تصدير المرسوم. هذا «الحقّ» مثار جدل دستوري وقانوني لا ينتهي. باختصار، هذه هي وزارة العدل: سُلطة الوزير في تحديد أين يكون موقع هذا القاضي أو ذاك.

 

لخّص رئيس مجلس النوّاب المسألة بقوله: في لبنان يوجد قضاة ولا يوجد قضاء(مروان طحطح)

 

في تلك الجلسة النيابيّة، وبعد أكثر مِن جلسة مناقشة لدى لجنة الإدارة والعدل، كان رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي مؤيّداً لاقتراح التعديل، إلا أنّه في النهاية وافق على طلب الحريري أن تسترد الحكومة الاقتراح، بحجّة دراسته أكثر، على أن تنتهي مِن ذلك بعد مُهلة شهرين. مضى 22 شهراً ولم يحصل شيء. شهدت تلك الجلسة نقاشاً حول المسألة. نطق برّي آنذاك، تعليقاً بعد نقاش نيابي حول المسألة، بعبارة ربّما تُلخّص معنى وزارة العدل و«قطاع العدالة» لدينا: «يُمكن القول إنّ في لبنان يوجد قضاة ولا يوجد قضاء». هذه هي. يوجد قضاة، وهولاء، مهما استقاموا، ليسوا بشيء بعيداً عن سُلطة الوزير. أوضح المسألة، يومذاك، وزير العدل الحالي (جريصاتي) عندما أظهر بُعداً دستوريّاً للمسألة يتّصل بجمهورية «ما بعد الطائف». قال متوجّها إلى برّي: «الاستقلاليّة (القضائيّة) بالنصّ المعروض أمامنا اليوم هي استقلاليّة مستقاة مِن نصّ شامل، قام به وزير عدل سابق، أخذنا مِنه فقرة اسمها استقلاليّة في موضوع المناقلات القضائيّة، بحيث انتفى بنتيجته دور المرسوم العادي. هذا المرسوم، بعد الطائف، تُرِك للوزير كي يكون رأس هرم إدارته. هذه النتيجة، من غير الممكن أن نوافق عليها اليوم في ظلّ دستور الطائف. أمّا أن ندرس تعزيز الاستقلاليّة، فسوف تُبادر الحكومة ضمن مهلة شهرين لتقدّم مشروع قانون شاملاً بهذا الخصوص». كان ذلك في الشهر الأوّل مِن السنة الماضية. بالمناسبة، وزير العدل السابق، صاحب الاقتراح، الذي ذكره جريصاتي مِن غير أن يُسمّيه، إنّما اسمه شكيب قرطباوي. الأخير كان محسوباً على الفريق السياسي نفسه للوزير الحالي، وهكذا. شهدت تلك الجلسة مداخلات نيابيّة مِن كتل مختلفة، وبدا أنّ الجميع متفق على الأمر، كأنّ هذه، على اختلافاتهم السياسيّة، تجمعهم: لن نُعطي للقضاء تلك المساحة. بليد ذهن مَن يتوقّع، في ظلّ النظام السياسي الحالي، أن تُعالج العلاقة المأزومة تاريخيّاً بين القضاء ووزارة العدل. الاستقلاليّة القضائيّة الحالمة، على مستوى العالم، إنّما هي أسطورة تُشتهى، لكن مع فارق جوهري: في بعض الدول الأوروبية، مثلاً، ثمّة إرث قيميّ يحكم بيئة العدالة، يُركن إليه ويُنتِج، وهو إرث يختلف، في النوع قبل أيّ شيء آخر، عمّا هو سائد في بلادنا. ورغم ذلك، تخضع العدالة هناك أيضاً لسلطة السياسة في القضايا «الحساسة»، تحت عناوين مختلفة، أبرزها «الأمن القومي» و«المصلحة العليا للبلاد». السياسيّون عندنا، مهما تسافهوا، إلا أنّهم يُدركون ذلك جيّداً. فحوى رأيهم: هل حقّاً القضاة في بلادنا مؤهلون للاستقلاليّة؟ أصلاً، الحاليّون مِنهم، مِن أين أتوا؟ ألسنا نحن مَن أتينا بهم، بلوائح تصل إلى وزارة العدل، باسم كلّ طائفة وحزب وجماعة؟ هذه جدليّة عقيمة أخرى.

قبل قرطباوي كان وزير العدل، إبراهيم نجّار، محسوباً على حزب القوّات اللبنانيّة. شغل المنصب مِن عام 2008 إلى عام 2011. مَن يذكر تلك السنوات يذكر كيف أصبحت «القوّات» فجأة مُحبّة للقضاء والعدالة و«دولة المؤسسات». تلك السنوات شهدت أعلى نسبة دعاوى قضائيّة مُقدّمة مِن «القوّات» ضدّ «كلّ مَن يفتح فمه». ربحت الكثير مِن تلك الدعاوى. لسببٍ ما، وبحسب العرف، لا أحد يتعامل مع وزارة العدل على أنّها «وزارة خدمات». هذا مصطلح لبناني بامتياز. الخدمات هنا تعني «التنفيعات» الحزبيّة، للحاشية وما شاكل، وإلا بالأصل فإنّ كلّ وزارة هي لخدمة المواطنين. بهذا المعنى تكون «العدل» مِن أكثر وزارات «التنفيعات» الخفيّة. دَين في عنق عائلة، يُخلى سبيل ابنها مثلاً، يُترجم شكراً يتّصل بتبعيّة أعمق، ومِن ثمّ في الانتخابات وأشياء أخرى. تعاقب على تلك الوزارة، منذ ما بعد اتفاق الطائف، جهات سياسيّة عدّة. لم يحصل تغيير جوهري، بالمعنى الإيجابي، في ظلّ تلك التعاقبات. المسألة، مرّة أخرى، ليست في الأشخاص، بل في «السيستام» الذي يُطبّع معه الجميع، سرّاً وعلناً.

تبلغ ميزانيّة «قطاع العدالة» نحو 0.4 في المئة، بينما المعدّلات العالميّة لا ينبغي أن تقلّ عن 1.5 في المئة

ما زال اللبناني يائساً مِن قضائه إلى حدّ العدم: «ما في عنّا قضاء». كانت هذه ستكون هائلة لو كنّا في بلاد تحتكم لإرث عدلي في قيمها. في تلك الجلسة النيابيّة المذكورة، قبل نحو سنتين، كانت مداخلة رئيس لجنة الإدارة والعدل النائب السابق روبير غانم حادّة. رفض تأجيل الاقتراح لدراسته، بعدما أشبع في اللجنة التي يرأسها درساً، فقال: «يا دولة الرئيس، يأتي قاضٍ محسوب على أحد، فيوقف جميع التشكيلات، هل هذا من المعقول؟ أنا أريد أن أقول لمعالي الوزير، أنا اليوم لم أعد أستطيع قول إنّ الحق معي لأنّ القضية محقة وأتقدّم إلى المحكمة، أنت اليوم تقول: «روحوا شوفوا فلان زلمة فلان حتى يزبطلك ياها». يُدفع المال لبعض السماسرة في العدليّة، وهم معروفون. لا يزال هناك قضاة نزيهون، لكن الطاغي أنّ القضاء أصبح فاسداً والكلّ يعرف ذلك. كلّ المواطنين يقولون إنّه لا يوجد قضاء. في هذه المداخلة لم يكن غانم ينطق باسم «السُّلطة العميقة» في لبنان. اليوم لم يعد نائباً.

نظريّاً، ما الذي تحتاجه وزارة العدل ليُصبح العدل أفضل، ولو قليلاً؟ بحسب أحد المحامين، وبعد خبرة سنوات في عمل الوزارة، يقول: «المطلوب إنشاء جهاز إداري متخصّص بالتطوّر القضائي المستدام. هذا أصبح علماً في أميركا على سبيل المثال. ما مِن وزير عدل، لا قبل الحرب الأهليّة ولا بعدها، وضع خطة عمل مستدامة. كلّ وزير جديد يأتي فيسعى لجعل الوزارة تشبهه شخصيّاً». بالمناسبة، تبلغ ميزانيّة «العدل» في لبنان نحو 0.4 في المئة مِن مجمل الموازنة، بينما المعدّلات العالميّة لا ينبغي أن تقلّ عن 1.5 في المئة. هذه إشارة إلى نظرة السُّلطة السياسيّة تجاه ما يُسمّى «قطاع العدالة». المظهر القذر لما يُسمى «قصور العدل» إشارة أوضح إلى تلك النظرة. عام 1920، وضع المفوّض السامي الفرنسي الجنرال غورو سبع دوائر للدولة، مِنها «دائرة العدليّة والأملاك والأوقاف». لاحقاً أصبحت تُعرف بـ«مديريّة العدليّة»، ثم «مصلحة العدليّة»، وبعدها «نظارة العدليّة». كان متولّيها يُوصف بـ«ناظر العدليّة». قرن مِن الزمن والمشكلات هي نفسها. حكاية العدالة المأزومة في بلادنا. هذه هي، تقريباً، وزارة العدل.