IMLebanon

الحكومة ممرّ الى المؤتمر التأسيسي

 

كان من المتوقع أن تُسارع وزارة الخارجية الفرنسية الى إصدار بيان ترحيبي بمبادرة الرئيس سعد الحريري.

في الواقع كان الحريري في صدد إعلان الموقف نفسه منذ أسبوع قبل ان يعود ويعدل عنه بعد ساعات معدودة نتيجة ضغوط زملائه في نادي رؤساء الحكومة السابقين، لكنه عاد وسار به بعد تنسيق كامل مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، والأهم بعد تفاهمات من تحت الطاولة مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، ولو انّ مصادر عين التينة نفت ذلك. وجاء ترحيب مصادر بري ليؤكد ذلك. وعلى رغم خطوة الحريري الجريئة هذه، والتي تحمل في طياتها كثيراً من المخاطر في شارعه وهو ما لَمّح إليه في بيانه، الّا انّ الولادة الحكومية ما تزال غير واضحة حتى الآن.

 

صحيح انّ بري ليس بعيداً عن الفجوة التي أحدثها الحريري في جدار الازمة الحكومية، الّا أنّ «حزب الله» ما يزال يرى انّ الخطوة تنقصها اضافات أخرى لا تقل صعوبة، فهو يريد ان يرفع لائحة من 10 اسماء ليجري انتقاء اسم وزير المال منها، وهو ما سينطبق لاحقاً على كل الحصة الشيعية في الحكومة. وقد يظهر لاحقاً موضوع نوعية الحقائب الاخرى وربما تركيبة الحكومة.

 

في الواقع يعترف احد العاملين على خط تأليف الحكومة، وهو الذي عمل سابقاً على خط تأليف حكومات سابقة، بأنّ «حزب الله» يبدي للمرة الاولى سلوكاً صارماً ومتشدداً.

 

في السابق وخلال مراحل تشكيل الحكومات السابقة كان «حزب الله» يتشدد في موضوع مطالب حلفائه، وأبرزها على الاطلاق مطالب «التيار الوطني الحر»، ولكنه كان يعمل على تدوير الزوايا في المطالب المتعلقة به. فهو أحدثَ سابقة عندما تخلى عن حقيبة شيعية وأعطاها لحليفه السني، ما أحدث خللاً في التوزيع المذهبي عند المسلمين. وهو ايضاً كان يقبل أن تسند اليه حقائب غير اساسية في اعتبار انّ الملفات الداخلية لا تهمه وانّ مشروعه اقليمي ويتعلق بمواجهة اسرائيل.

 

لكن ثمة تبدلاً واضحاً في اسلوب «حزب الله»، ولم يعد سراً انّ بري وعندما تم طرح مبدأ المداورة الشاملة بما فيها حقيبة وزارة المال، كان موقفه أقرب الى التفاوض منه الى الاعتراض. لكن موقف «حزب الله» أعاد الامور الى نقطة البداية، قبل ان يعود الحريري ويعلن مبادرته.

 

وكذلك تساءلت الاوساط القريبة من «حزب الله» عن موقف رئيس الجمهورية و»التيار الوطني الحر»، وما اذا كان سيقبل بسقف أدنى من السقف الشيعي في طريقة التعاطي مع الملف الحكومي. وهذا على رغم من الاجواء التي صدرت عن «التيار الوطني الحر» بعد إعلان الحريري مبادرته والتي بَدت مَرنة وأنه سيوافق على ما سيتفق عليه الرئيس المكلف والفريق الشيعي، إلّا انّ البيان الصادر عن قصر بعبدا بعد ظهر امس أعطى موقف رئيس الجمهورية منحى مختلفاً عندما لمّح الى انه مشارك في تأليف الحكومة، ما يعني انه سيفرض مسائل تناقض موقفه السابق وهو موقف بات أقرب الى «حزب الله» ويحقق ما كانت قد أوحت به المصادر القريبة من الحزب من أنّ رئيس الجمهورية قد لا يقبل بسقف أكثر انخفاضاً من سقف الفريق الشيعي، خصوصاً انّ التيار كان التزم التسهيل ولن يضع العصي في الدواليب.

 

في أي حال، فإنّ طريقة اعلان الحريري مبادرته أظهرت وجود «نقزة» من ظهور عقبات اخرى، خصوصاً مع التكتم الذي أبداه الرئيس مصطفى اديب، ما يترك الباب مفتوحاً امام الانسحاب اذا دعت الحاجة.

 

وكان من الطبيعي للديبلوماسية الأوروبية ان تتابع وتراقب وتدرس الخلفية الفعلية التي تتحكّم بموقف «حزب الله». هي تبدو مَيّالة الى انّ التوازن الجديد في المواقف من الحكومة لم يعد في مصلحة تَشدّد «حزب الله»، بعد استدارة بري والتزام رئيس الجمهورية موقفه التسهيلي، لكنها تدرك ايضاً انّ الواقع السياسي اللبناني معقد وشديد التشابك ما يستوجِب الحذر في التقديرات.

 

وفي معرض درسها، تستعرض الاوساط الديبلوماسية الاوروبية بعض الجوانب التي تتحكّم بخلفية موقف «حزب الله»، وهي:

ـ أولاً، الواقع الاقليمي المحتقن والذي يتعلق بالنزاع الذي تخوضه ايران. ومن المنطقي ان تبحث باريس في هذا الجانب، خصوصاً وسط التشابك الحاصل بين طهران وواشنطن والذي يشتد كلما اقتربنا من الانتخابات الرئاسية الاميركية. أضف الى ذلك انّ خيارات طهران وأوراقها ليست كثيرة، فالورقة الامنية، والتي تستعملها ايران عادة في وجه الضغوط الاقتصادية الاميركية، دونها محاذير. فحتى التقديرات الاميركية لا ترجّح قيام إيران والقوى المتحالفة معها باستهداف القوات الاميركية في العراق او سوريا من خلال هجوم كبير ومُكلف بشرياً خشية انعكاس ذلك لمصلحة الرئيس الاميركي دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية.

 

ولاحظت هذه الاوساط أنّ الهجمات التي تحصل أخيراً في العراق تبدو أخفّ شدة ولو انها ما تزال مستمرة. ففي السابق كانت الضربة الواحدة تتألف من اكثر من 20 صاروخاً يجري إطلاقها دفعة واحدة، أمّا الآن فإنّ الهجمة لا تتجاوز الاربعة الى خمسة صواريخ على أبعد تقدير.

 

والأهم أنّ المهاجمين لا يستخدمون أسلحة متطورة ودقيقة، بل مجرد قذائف مدفعية من نوع هاون وصواريخ من عيار 107 ملم، وهو ما أدى الى عدم سقوط اي قتيل اميركي حتى الآن.

 

والواضح انّ هنالك حرصاً على عدم فتح الباب امام رد عسكري قد يلجأ إليه ترامب في حال سقوط جنود قتلى. ولفت في هذا المجال ما كان قد أشار اليه قائد المنطقة الوسطى في الجيش الاميركي الجنرال كينيث ماكينزي، من أنّ الجيش الاميركي استقدم قدرات دفاعية جديدة تشمل أنظمة الدفاع الصاروخي «باتريوت»، تحسّباً لهجمات إيرانية أقوى.

ـ ثانياً، التعقيدات السياسية تجاه ايران والخشية من مرحلة ما بعد الانتخابات الاميركية، وبالتالي بقاء ترامب واندفاعه اكثر في سياسة خنق ايران. ولذلك تقدمت باريس في اتجاه طهران، وأعلنت باسم الاتحاد الاوروبي تميّزها عن واشنطن، وهو ما فعلته حين واجهت قرار العقوبات الاخير في الامم المتحدة، اضافة الى التزام الرئيس الفرنسي العلني والرسمي منذ يومين التمسّك بالاتفاق النووي مع ايران.

ـ ثالثاً، ان يكون لـ»حزب الله» أهداف لبنانية مصيرية انسجاماً مع القراءة الجديدة للاحداث والتطورات في الشرق الاوسط، والتي أدت الى اصطفافات ومحاور جديدة تؤشّر الى نشوء واقع جيوسياسي جديد، واعادة تكوين للسلطة ونظام الحكم في سوريا والعراق. وبالتالي، فإنّ «حزب الله» قد يكون يراهن على انّ الظروف اصبحت ناضجة للدفع في اتجاه المؤتمر التأسيسي كأولوية في هذه المرحلة. ووفق القراءة الديبلوماسية الاوروبية فإنّ الرئيس الفرنسي، الذي فتح باب الحديث عن تطوير النظام السياسي في لبنان خلال زيارته الاولى الى بيروت، قد شجّع «حزب الله» على الدفع اكثر في هذا الاتجاه. والمعروف انّ الدخول الى قاعة «المؤتمر التأسيسي» يستوجب أن يسبقه أزمات كبرى تؤدي الى إنضاج الظروف في هذا الإطار. فاتفاق الدوحة كان قد مَهّد إليه زلزال عسكري وبحر من الدماء، وهو ما أمّنَ مرونة أدت الى تعديل الدستور.

 

واتفاق الدوحة، ولو أنه أدخل أعرافاً الى واقع الحكم ولم يصل الى حدود تعديل النصوص، جاء بعد تدهور الوضع في شوارع لبنان واندلاع مواجهات خطيرة. ولأنّ الظروف الحالية لا تسمح بالانزلاق في فوضى امنية وعسكرية، فإنّ الفوضى الناتجة من الانهيارين الاقتصادي والمالي في ظل أزمة سياسية خانقة قد تدفع الى الذهاب للبحث عن صيغة حكم جديدة تظلل لبنان لعشرات السنين المقبلة.

 

وتدرك الاوساط الديبلوماسية الاوروبية انّ «حزب الله» قد يكون ارتاب بعد إجهاض الانتصارات السياسية التي حققها أخيراً وأدّت الى إمساكه بالسلطة، إن من خلال وصول العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، او من خلال إقرار قانون جديد للانتخابات سمح له بالفوز بالغالبية النيابية، ما يعني إمساكه بالتشكيلات الحكومية وبالتالي السلطة التنفيذية.

 

ومنذ انطلاق 17 تشرين تلقّى حليفه «التيار الوطني الحر» ضربة قوية في الشارع المسيحي، ليأتي انفجار 4 آب وينقل الساحة اللبنانية بكاملها الى الرعاية الدولية من خلال فرنسا، وهو ما يفسّر الكلام حول رفض «حزب الله» الانقلاب الحاصل على نتائج الانتخابات النيابية الاخيرة.

 

أيّ فرضية من هذه الفرضيات الثلاث هي الأصح؟

لا أحد يستطيع ان يجزم، ولو انّ الاوساط نفسها تبدي شيئاً من التفاؤل الحذر بعد مبادرة الحريري، استناداً الى تبدّل الخريطة السياسية الداخلية ولو من تحت الطاولة، وهو ما تشتهر به الحياة السياسية اللبنانية. والدليل الى ذلك عندما كان «حزب الله» يتمسّك بقوة ببقاء حكومة حسان دياب واستمرارها، الّا انه فشل في المحافظة عليها بعد ان نجحت الخيوط الداخلية المُتشابكة في تطييرها ودفعها الى الاستقالة. لكنّ موقف رئيس الجمهورية أمس يعيد خلط الاوراق، وهو ربما ما سيجعل الضغط الدولي يعود من خلال سياسة العقوبات