IMLebanon

مجدداً… القيصر الروسي في المخدع الأميركي

التطورات الدبلوماسية والميدانية على المشهدين الإقليمي والدولي، من الساحة السورية حتى شمال أوروبا مروراً بالرياض وفيينا، متعدّدة ومتداخلة وربما يستحيل ترتيبها وفقاً للأهمية أو وضعها في إطار مبسّط، ولكنّها أكثر من كافية لتبيان العديد من الدلالات. الدلالة الأولى التي يُمكن استبيانها من الميادين السوري واليمني والعراقي والليبي، هي إنسداد الأفق السياسي، في حين يشكّل كلّ من الهاجس الأمني لدول الاتّحاد الأوروبي الناجم عن تداعيات اللجوء عبر تركيا، والركود الاقتصادي عاملين مقيّدين للقرار الأوروبي. ويكتمل المشهد بالمأزق الروسي المتمثّل بتوسّع حلف شمال الأطلسي ونشر الولايات المتّحدة المزيد من منصات الصواريخ.

الدلالات الثلاث تقدّم مشهداً معقّداً ومُربكاً للحيوية الدولية بحيث تحتفظ دبلوماسية الإملاء الأميركية وحدها بحرية الحركة في كلّ الساحات. وزير الخارجية جون كيري دعا المملكة العربية السعودية أمس الأول بعد اجتماعه بالملك سلمان بن عبد العزيز إلى دعم العملية السياسية في ليبيا وسوريا، قبل أن ينتقل إلى فيينا للاجتماع مع ممثّلي 22 دولة في مقدّمهم إيطاليا لبحث المسألة الليبية ومواجهة تنظيم الدولة. كيري يوزّع الأدوار ويبدو أنّه يمسك بكلّ الأوراق. الولايات المتّحدة بعد الهزيمة الميدانية الإيرانية في «خان طومان» وتعثّر ردّ الفعل الروسي، وعبر الهواجس الأمنية الأوروبية، واستدراج روسيا للدخول في سباق تسلح جديد تُعيد تركيب «البازل الدولي» ببراعة وخبث وشراهة لافتة وتُدخل اللاعبين إلى الملعب الأميركي بالشروط الأميركية.

يرسم كيري، عبر حديثه لشبكة «CNN» بكلّ وضوح حدود وقيود المناورة الروسية، فيقول أنّ الولايات المتّحدة تتفهم جيداً المصالح الروسية في سوريا، ولكنّ الوضع في سوريا ليس وضعا مثالياً، وهناك مشاكل يجب العمل عليها فهذه حرب امتدت لخمسة أعوام، وفي الحقيقة هي أكثر من حرب، مشدّداً على أهمية الدفع باتّجاه التوصّل إلى حلّ سياسي إذا أرادت روسيا أن تتفادى «المستنقع السوري».

ويضيف كيري أنّه ليس من مصلحة روسيا التحوّل إلى هدف يطارده كلّ جهادي في العالم السني، فعدد المسلمين في روسيا يمثّل 20 في المئة من السكان تقريباً. وهذا العدد الكبير من المسلمين يجب أن يبقى بعيداً عن استقطاب التيارات المتطرفة كما يمكن أن يكون عنصراً داعماً للعلاقات الخليجية معها.

من خلال هذا التوصيف لشروط الملعب السوري، تتضح استحالة التعايش بين موسكو وطهران في سوريا. طهران تعتقد بأنّ السير في طريق التهدئة والمعالجة السياسية في ظلّ التوازنات القائمة، سيضعها، شعبياً وسياسياً، في موقع لا تُحسد عليه ويؤثّر سلباً في نفوذها الإقليمي ومستوى دعمها لحزب الله وحلفائها العراقيين. بينما تعتبر روسيا أنّها حققت أقصى ما يمكن تحقيقه في سوريا وأنّ عليها الدفع بالعملية السياسية لتثبيت هذه المكاسب، وأنّها تتفق مع واشنطن حول تأثير مستقبل سوريا على الأمن الإسرائيلي وبالتالي فهي ملتزمة بالإبقاء على نظام ضعيف أو بتغذية الصراعات في سوريا للإبقاء على استقرار جبهة الجولان.

على المقلب الأوروبي، تقييدات من نوع آخر بوجه روسيا وإلزامات أميركية لدول شمال أوروبا. حلف شمال الأطلسي يتمدّد عسكرياً وسياسياً لتطويق روسيا، سواء في مجالها الحيوي المباشر، أي دول البلطيق، – وآخرها دعوة فنلندا التي تتشارك مع روسيا في حدود طولها 1340 كيلومتراً للانضمام للحلف، مما سيضاعف الحدود المشتركة بين روسيا والحلف ويزيد من تواجده في بحر البلطيق – وفي أوروبا الشرقية أو في آسيا الوسطى والقوقاز من خلال ضمّ المزيد من الدول إليه ووضعها تحت حمايته أو نشر دروع صاروخية عند حدودها، مثلما يحصل الآن في رومانيا، أو بطريقة غير مباشرة من خلال الثورات الملوّنة كما حصل في أوكرانيا، وتنظيم مناورات ضخمة في جورجيا.

وفي هذا المجال، يؤكّد الأمين العام لحلف الأطلسي «يانيس شتولتنبيرغ» بما يشبه توزيع المهام على الدول الأوروبية والسخرية من روسيا في آنٍ واحد: «أنّ النظام الصاروخي يعزز قدرة الدفاع لدى الحلفاء الأوروبيين في مواجهة صواريخ تنطلق من خارج المنطقة الأطلسية، خصوصاً من الشرق الأوسط» كما يدعو موسكو إلى عدم القلق لأنّ «الموقع في رومانيا مثل ذاك الذي سيقام في بولندا ليس موجهاً ضدها».

لقد كان الرئيس أوباما صريحاً عندما قال أنّ الأولويات الأميركية تختلف عن الأولويات الخليجية، وقد جاهر باندفاعه لإنهاء الملف النووي الإيراني معتبراً ذلك من أهم الإنجازات التي حققها بالرغم من الريبة التي أثارها لدى حلفائه الخليجيين، الذين لم يتأخروا باتّهام الولايات المتّحدة بالوقوف وراء التمدد الإيراني وبدعم قوى الإضطراب والفوضى، وبالعبث باستقرار المنطقة وأمنها. أميركا بلا منازع، تتحكّم في توزيع موازين الثقل الدولية، وهي قوة محورية ومؤثّرة في الشأن العالمي، وهي لن تعتمد الديبلوماسية أو توزيع الأدوار بشكل دائم لتحقيق أهدافها، لكن الفارق أنّ الولايات المتّحدة اختارت المجاهرة بأهدافها واحتفظت بحرية اختيار الوسيلة.

ما يجب استنتاجه من ذلك طبعاً، إنّ الاولويات الأميركية التي لا تتطابق مع الأولويات الخليجية لا تتطابق أيضاً مع الأولويات الإيرانية أو الروسية أو السورية.

نجحت الولايات المتحدة في استدراج القيصر مجدداً…وأضحت التسوية السياسية في سوريا لعبة مقفلة داخل المخدع الأميركي.