IMLebanon

اللبنانيون يريدون حلّا ويرفضون الفتنة

 

وكأن الإنهيار اللبناني الراهن لا ينقصه إلا العودة إلى الإنقسامات الحزبية والطائفية في الشارع، لتزيد الأوضاع الاقتصادية والإجتماعية تردياً، وتُفاقم معاناة اللبنانيين الذين باتوا لا يدركون إلى أي وادٍ في جهنم وصلوا!

 

التراشق بالتهم الخيانية، عوض إعتماد الحوار العقلاني بين الشركاء في الوطن، والمفترض أنهم أبناء المصير الواحد، يهدد ما تبقّى من أمن إجتماعي، ويصب الزيت على نار الغضب والسخط الذي يشتعل في صفوف اللبنانيين، بسبب السقوط المريع للسلطة الحاكمة، وللقدرات المالية التي فقدت فعاليتها بعد إنهيار الليرة، وإجتياح الغلاء الفاحش للحاجيات الأساسية للناس.

 

ليس جديداً مثل هذه الخلافات حول القضايا السياسية والمصيرية المطروحة، وفي مقدمتها طروحات البطريرك بشاره الراعي حول الحياد الناشط والمؤتمر الدولي برعاية الأمم المتحدة لإنقاذ لبنان من مهاوي الكوارث التي قوّضت مقومات الدولة، وسحقت حياة الأكثرية الساحقة من اللبنانيين.

 

لكن لا يحق لأحد أن يعتبر الإختلاف في الرأي أو الرؤيا السياسية معه، هو فعل خياني يُتهم صاحبه بما هو ليس به، وكأن ثمة فريق هو على حق دائماً، والفرقاء الآخرين على باطل دوماً، ويجب أن يُخضعوا لفحص دم بالوطنية والولاء للأمة، لتثبيت براءتهم من الإرتباط مع الخارج.

 

الطريف في الأمر أن حزب الله الذي يتهم الآخرين، وخاصة خصومه السياسيين، بالإرتباط بجهات خارجية، سبق له وأعلن أكثر من مرة إلتزامه بمبدأ ولاية الفقيه والتحالف العضوي مع إيران، وتأكيده بأن تمويله وسلاحه وأكله وشربه يأتيه من إيران، في الوقت الذي يعتبر فيه أن أي علاقة سياسية لأي طرف لبناني مع أي دولة عربية شقيقة هي ضرب من الخيانة.

 

وأبعد من ذلك، فإن علاقات الشخصيات السياسية والأحزاب اللبنانية مع أطراف خارجية، ليست حكاية جديدة في التاريخ اللبناني، بل تعود أيامها إلى ما قبل عهد المتصرفية، الذي ظهر أساساً كنتيجة للفتنة الطائفية في الجبل التي أشعلتها التدخلات الدولية المعروفة.

 

قيادة حزب الله تعرف جيداً أن الفاتيكان هو المرجعية العليا للبطريركية المارونية، وبالتالي فإن مواقف بحجم الخطاب السياسي الأخير للبطريرك الراعي، لا بد أن تكون موضوع تنسيق بين بكركي والفاتيكان، ولو من باب حرص الكرسي البابوي على إنقاذ «الوطن  الرسالة»، وفق ما ورد في رسالة البابا فرانسيس عشية عيد الميلاد التي ناشد فيها المجتمع الدولي إنقاذ لبنان وشعبه، وهذا يعني أن ثمة رغبة فاتيكانية عليا في دعم هذا التوجه، بعدما عجزت الأطراف السياسية اللبنانية على إيجاد الحلول المناسبة للانهيارات المتتالية، بل وبعد إصرار هذه الطبقة السياسية على تفشيل مبادرة الرئيس الفرنسي ماكرون في تشكيل حكومة مهمة لوضع البلد على سكة الإنقاذ والحصول على المساعدات الخارجية من الدول المانحة والمؤسسات المالية الدولية.

 

ليس من المتوقع أن يُلاقي طرح البطريرك حول الحياد والمؤتمر الدولي قبولاً وترحيباً من الحزب، الذي يعتبر أن أي تدخل خارجي سيكون على حساب نفوذه ودوره في إدارة اللعبة السياسية في البلد، فضلاً عن أن المبادرة البطريركية تتضمن أيضاً وضع إستراتيجية دفاعية تُنهي إزدواجية السلاح، وحصره مع القوى الشرعية من الجيش والقوى الأمنية، على نحو ما كان مطروحاً على طاولة الحوار الوطني في عهد الرئيس ميشال سليمان، والذي إنتهى بالتوافق على «إعلان بعبدا».

 

ثمة حقيقة واقعة، لا بد من الجميع أن يدركوا أبعادها بعيداً عن أي إستهداف سياسي لهذا الفريق أو ذاك الحزب: اللبنانيون يتعطشون إلى إيجاد المخارج والحلول للنكبات التي تطوق أعناقهم وتهدد مستقبل أجيالهم، ولكنهم يرفضون رفضاً قاطعاً وحاسماً الوقوع في نيران الفتنة من جديد، مهما كانت المبررات، ومهما تعددت الأسباب، وهم يبحثون عن منافذ للخروج من جهنم الإنهيارات المستمرة، في ظل سلطة فاسدة، وطبقة سياسية عاجزة حتى عن تشكيل حكومة، وعن إدارة الأزمة المستفحلة على كل المستويات الرسمية والإجتماعية.

 

لا يجوز وضع اللبنانيين أمام خيارين أحلاهما المر: الفتنة أو إستمرار الأزمات الراهنة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً في الملف النووي الإيراني، أو الملفات الإقليمية الأخرى، التي تحوّل فيها لبنان إلى مجرد ورقة في بازار التسويات والصفقات الخارجية، ولم يعد قضية تحتل مكانتها المميزة في سُلّم أولويات عواصم القرار العربي والدولي.

 

وعلى الذين يُعارضون دعوة البطريرك الراعي للحياد والمؤتمر الدولي، أن يُبادروا إلى طرح حلول بديلة، لا سيما وأن حزب الله يملك مفاتيح السلطة في العهد الحالي، ويتحمل المسؤولية الأولى في البحث عن مخارج وطنية متوازنة للمحنة التي تهدد لبنان الدولة والنظام والصيغة.