IMLebanon

كلّ «أمل» في «بليدا»: الإمام والشّهداء والتّاريخ والأوفياء..

 

 

 

يقول قيادي بارز في حركة أمل: «ما حصل في «بليدا» ردّ اعتبار للحركة وجمهورها وتاريخها وإمامها وكلّ شهدائها».

ولمّا نسأله لماذا؟ يقول:

«ألم تتفاعلوا مع عفويّة النّاس وهتافاتهم، ألم تسمعوا أمّ الشّهيد الأوّل وزوجة الشّهيد الثّاني؟ ألم تتأثّروا مع والد الشّهيد «مصطفى ضاهر»؟

ذلك السّبعينيّ الّذي أطلّ برأسه من باب السّيّارة ليردّ على سؤال الصّحفي، فأجاب ببضع كلمات وبصوت متهدّج خافت.

 

ربّما هي المرّة الأولى الّتي يواجه فيها كاميرا في حياته، قال ما قالته والدة الشّهيد «حيدر الفيطروني»(أحد الشّهداء الأوائل في عين البنيّة) للإمام موسى الصّدر أواسط السّبعينات: «ليش زعلان يا سيّد، ابني استشهد وبعد عندي 3 غيروا وأنا وبيّو مستعدّين نستشهد فداء للبنان والمقاومة»، هو ربّما لم يسمع بالشّهيد «فيطروني» ولا سمع كلمات أمّه للإمام، لكنّ ثقافة «أمل» الّتي زرعها الصّدر صارت جزءً من هويّة بيئة المقاومة.

بين أوّل الشّهداء وآخرهم ما زالت الرّوح نفسها، فقد قال والد الشّهيد مصطفى مثلما قالت أمّ الشّهيد حيدر: «بعد عندي 4 مستعد قدّمن كرمال أرضي وكرمال وطني وكرمال شرفي».

 

يختم قيادي «أمل»: «هذه هي حركة أمل، هكذا أرادها الإمام موسى الصّدر وهكذا حفظ الرّئيس نبيه برّي أمانة الإمام بعد خمسين عامًا على الولادة، كلّ الأحزاب تغيّرت إلّا «أمل» ليس لأنّها لا تواكب الزّمن بل لأنّ الإمام الصّدر سبق زمانه وقرأ لبنان وموقعه ودوره وتعقيداته كما لم يقرأه أحد قبله ولا بعده..»

بالعودة إلى مشهد «بليدا» وخصوصيّته، لا بدّ من ربطه بمكانه وزمانه ومناسبته.

– المكان:

«بليدا» هي آخر بلدة في قضاء مرجعيون لناحية الجنوب، تقع  في القطاع الأوسط من المنطقة الحدوديّة، تحدّها من الشّرق فلسطين المحتلّة، بل إنّ ثلثي أراضيها ضُمّ إلى فلسطين عام 1923 ففقدت خراجها الشّرقي بمعظمه والّذي يقدّر بنحو ثلاثين ألف «دونم» من الأراضي الزّراعيّة.

«بليدا» أعطت فلسطين من أرضها وأهلها، فقدّمت ثمانية شهداء منذ بداية عمليّة «طوفان الأقصى»: ثلاثة أطفال وجدّتهم ومقاومان من حزب الله ومقاومان من حركة أمل.

 

وبسبب ملاصقتها لفلسطين ووقوعها تحت خطّ النّار دار نقاش داخل أروقة القرار في حركة أمل عشيّة تشييع الشّهيدين حول خطورة تجمّع المشيّعين على مقربة من عدوّ غدّار تستفزّه شجاعة أهالي الجنوب مقابل المستوطنين الّذين نزحوا من مستعمرات الشّمال وصدعوا رأس «نتنياهو» من كثرة الخوف والشّكوى.

قُدّمت اقتراحات كثيرة، منها إقامة المراسم في مدينة صور أو تبنين ثمّ انطلاق موكب التّشييع نحو مسقط رأس الشّهيدين، لكنّ رأي قيادة الحركة استقرّ على تحدّي العدو وإقامة المراسم داخل البلدة، وهكذا كان.

احتشد الآلاف تحت المطر محاطين بأخوة سلاح الشّهيدين بكامل زيّهم العسكريّ، صلّى مفتي صور وجبل عامل على الشّهيدين، ألقى النّائب أشرف بيضون كلمة رئيس الحركة، ثمّ عُزف نشيدا لبنان و «أمل» وجاب المشيّعون أزقّة «الضّيعة» على وقع موسيقى كشّافة الرّسالة الإسلاميّة وصولًا إلى الجبّانة الملاصقة لحدود فلسطين.

كان العدوّ يراقب المشهد بحقد واستفزاز فأطلق جنود موقع «بياض بليدا» نار الرّشاشات الثّقيلة على محيط البلدة ليخيف المشيّعين ويفرّقهم، لكنّ الأوفياء ازدادوا إصرارًا وتحدّيًا.

لقّن الشّيخ «محمّد بزّي» الشّهيدين «شهادة أهل الإيمان» ومن داخل القبر ارتجل كلمة عفويّة بلكنة جنوبيّة عامليّة وجّه فيها تحيّة إلى «بليدا» وأهلها الّذين قدّموا الشّهداء دفاعًا عن الجنوب ولبنان، وبالتّزامن مع آخر جملة قالها «لبّيك يا حسين» دوّى صوت غارة صهيونيّة استهدفت منزلًا يبعد عشرات الأمتار عن جبّانة البلدة.

لم تنفع العدو رشّاشاته لتفريق المشيّعين، فلجأ إلى طائراته علّ صوت الغارة يلقي الخوف في القلوب، لكنّ صدى نداء «لبّيك يا حسين» كان أقوى، فارتفعت القبضات والهتافات صوتًا واحدًا، وبدل التّراجع تقدّم عدد من الشّباب باتّجاه موقع العدو وراحوا يهتفون بكامل إيمانهم وثقتهم بربّهم ومقاومتهم، كان مشهدًا يختصر كلّ معاني الصّمود والتّحدّي.

هذه المشهديّة استفزّت إعلام العدو ورؤساء المستوطنات وخصّصت تقارير مصوّرة ورسائل إعلاميّة حول الحادثة على شاشات العدو ومواقعه الإخباريّة، واعتبروا دخول «أمل» على الخطّ بشكل علنيّ تحدّيًّا إضافيًّا لقيادة الحرب هناك، فهم يخافون وحدة الصّفّ المقاوم، والإمام الصّدر يعرف ذلك فقال منذ عقود: «الوحدة الدّاخليّة أفضل وجوه الحرب مع العدوّ الإسرائيليّ».

الزّمان والمناسبة:

لأجل هذا المشهد وهذه الوحدة وهذه الثّقافة وهذا النّهج انتفضت حركة أمل بقيادة الرّئيس نبيه برّي يوم 6 شباط عام 1984 لإسقاط اتّفاق 17 أيّار المشؤوم.

انتفضت «أمل» ومعها الحزب التّقدّمي الإشتراكي وباقي القوى الوطنيّة لكي يبقى لبنان عربيّ الهويّة والإنتماء، ولكي لا يتحوّل إلى خاصرة رخوة لاستهداف سورية ومنطلقًا لفكّ العزلة عن «إسرائيل» وتصير لغته وثقافته ومشروعه عبريّة الهوى والهويّة.

انتفاضة 6 شبّاط أخّرت مشروع السّلام والتّطبيع أربعين عامًا، وحصّنت لبنان من مشاريع التّقسيم والتّهويد، وغيّرت مفاهيم النّظام القائم على منطق «قوّة لبنان في ضعفه» إلى منطق «قوّة لبنان في وحدته ومقاومته».

وعلى سبيل «الصّدفة خير من ألف ميعاد» وفي خضمّ الضّغط على لبنان من أجل تطبيق القرار 1701 من وجهة نظر إسرائيليًة و «بعض لبنانيّة»، أي سحب المقاومة من جنوب اللّيطاني، وفي الوقت الّذي يحارب فيه الرّئيس نبيه برّي ديبلوماسيًّا لفرض تطبيق القرار من الجانبين، وإصراره على أنّ المقاومة هي النّاس والأرض والبيوت، وأنّ نقل نهر اللّيطاني إلى الحدود أهون من إخراج المقاومة من جنوبه، جاء مشهد «بليدا» ليعطي الرّئيس برّي وثيقة مصوّرة تثبت صدق مواقفه وقوّة دليله وحجّته.

وأعتقد بأنّ رئيس أمل ومجلس النّوّاب سيحتفظ بنسخة من الفيديو ليعرضها على الديبلوماسيين الغربيين الّذين يزورونه، فنحن في عصر الصّورة، والصّورة العفويّة أصدق من تلك المقصودة والمشغولة، والرّئيس برّي يعرف كيف يوظّف عناصر القوّة والحقّ!