IMLebanon

عندما يغضب السفراء!

 

 

معروف عن السفراء انهم في لقاءاتهم وحواراتهم يسيرون بين النقاط في مقاربتهم لأيّ ملف، ويُحسنون تلطيف المعاني ويختارون من الكلام جميله، ويحاذرون ان يتعثروا بزلة لسان تؤوّل او تفسّر على غير مقصدها. ولكن الأمر مختلف مع مقاربة الملف اللبناني المتشعّب، وضمنه الملف الرئاسي الذي يبدو انّه كفّر الديبلوماسيّين.

الكلام الديبلوماسي العلني الذي يأتيه السفراء حول أزمة الرئاسة في لبنان، لا يخرج عن الالتزام المعهود بتكرار المواقف الرسمية الصادرة عن دولهم، وإطلاق أسطوانة النصائح التقليدية للبنانيين بإنجاز استحقاقاتهم الدستورية، التي يتصدرها انتخاب رئيس الجمهورية، واعادة تكوين الدولة وإحياء سلطاتها واصلاح اداراتها المهترئة. ولكن ما يقوله السفراء في الصالونات والغرف المغلقة يخرج عن التحفّظ المألوف، ويذهب الى مَديات غير متوقّعة.

 

كلام السفراء، يشرّح السياسيّين اللبنانيين على طول المشهد الداخلي، ويضعهم في الغربال الديبلوماسي، وسرعان ما تظهر نتيجة الغربلة؛ قلّة عاقلة ومسؤولة وصاحبة موقف وقرار وتتمتّع بحكمة وحنكة مشهودة لها، تبقى في الغربال، وأما الآخرون فحدّث عنهم ولا حرج، يتساقطون منه كحُبيبات التراب، ويتطايرون «متل قشور الزوان».

ولأنّ الأمانة الديبلوماسية تفرض في معظم الأحيان الإكتفاء بالتلميح، يتجنّب السفراء ذكر أي اسم صراحة، إلّا أنّ ما في طيّات ما يقال من تلميحات وغمزات غاضبة من بعض السياسيّين، وتصريحاتهم وانفعالاتهم ومقارباتهم بما فيها من مبالغات و«شطحات» واستعراضات مجافية للواقع والوقائع، لا يكلّف مَن يسمعه عناءً كبيراً ليدرك من هو المقصود به.

وأنت تتلقى ما يقوله السفراء، تشعر بأنّ البلد صفحة مفتوحة أمامهم، فهم يعرفون كلّ شيء، ومطلّون على كلّ التفاصيل الداخلية، وليست غائبة عنهم حتى الخفايا السياسية؛ يعرفون من يلتقي بمَن، ومن يشكو ممّن، ومن يتعالى على من، وماذا يقول هذا بحق ذاك، ومن يقول في العلن غير ما يقوله داخل الغرف. هنا تحدثك نفسك: لو أنّ هؤلاء السياسيّين يسمعون فعلاً ما يقال عنهم وفيهم، لن تحمرّ وجوهم وينشّف ماؤها فقط، بل لَطأطأوا رؤوسهم خجلا، ولا توانوا عن دفنها في رمال سياساتهم الخادعة الملوثة بالنكد والمعاندة والوسخ الطائفي والنفخ الكاذب لأحجام وهمية.

 

في كلام السفراء، يجذبك ما يسري فيهم من غضب دفين على ما يسمّونه «إهدار الفرص واغلاق فسحات النجاة التي لطالما فتحت امام القادة السياسيين». وأما المآخذ التي يُبدونها فليست آنية فحسب، ولا ترتبط فقط بالملف الرئاسي، فالذاكرة الديبلوماسية تختزن منذ بدايات الازمة في لبنان في العام 2019، الكثير من السقطات؛ وتستذكر أبلغ توصيف تحذيري من الأزمة آنذاك، الذي جاء على لسان وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان حينما شبّه وضع لبنان بسفينة «التايتانيك»، ولكنّ ما تسجله هذه الذاكرة هو أن السياسيين في لبنان، وبدل ان يلتقطوا هذا التحذير تجاهلوه واتهموا الوزير بالمبالغة، وتناسَوا انّهم هم، بأدائهم على مدى سنوات طويلة، تناوَبوا على بناء جبل الجليد الذي ارتطمت به السفينة اللبنانية، وفي النتيجة غرقت السفينة وصار حال لبنان أسوأ من مصير التايتانيك.

يقارب السفراء الملف الرئاسي بكلام صريح ومباشر من دون قفازات إنْ صحّ التعبير، أقل ما يقال فيه إنه برغم عدم إتيانه على ذكر الاسماء صراحة، ينزع اوراق التوت الساترة وجوه مُعطّلي انتخاب رئيس الجمهورية، وبمعنى أصحّ يعرّيهم بالكامل. فكلّهم، أي المعطّلون، من أعلى هرمهم الى أدناه، معروفون بالأسماء، ومكشوفون امام العيون الديبلوماسية التي تراهم كما هم، بأحجامهم على حقيقتها، وبفعاليتهم على محدوديتها، وبأوزانهم على قدرها تماماً لا غرام بالزايد ولا غرام بالناقص.

 

في تشخيصهم للمشهد، يعترف السفراء بقدرة أيّ طرف سياسي في لبنان على تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية، وهذا الامر اذا ما استمر سيمدّد عمر الفراغ في الرئاسة اللبنانية الذي قاربَ السبعة أشهر، الى فترات طويلة لا يُعرف ماذا ينتظر لبنان خلالها، لكن المؤسف، على ما يقول السفراء هو انّ الاطراف السياسية، وعلى وجه الخصوص الاحزاب الكبرى التي تعتبر نفسها أول المعنيين برئاسة الجمهورية، بَدل ان يدركوا هذا الأمر، يعمّقون اللاثقة ببعضهم البعض، ويرفعون سقف المواجهة فيما بينهم الى حدود أضَرّت بهم وبمجتمعهم، واعدمت نهائياً اي إمكانية من الداخل اللبناني لصياغة اي تفاهم بين الاطراف السياسية المتصارعة على رئيس للجمهورية.

هذا المنحى الداخلي المُعانِد على الخط الرئاسي، مثير للريبة والدهشة، يقول السفراء، وبصراحة غير متوقعة يسوقون سؤالاً اتهامياً لاذعاً يقول: «كيف يمكن أن تراهن على ربح السباق بعدّاء وكيف يمكن ان تنتظر توافقا لبنانيا داخليا من مكونات سياسية مصابة، في معظمها، بحالة متقدمة من الانفصام عن الواقع، يجري التعبير عنه، اي الانفصام، باستهتار مريب بوضع لبنان الصعب، وبمبالغات تقترب من الهلوسات الميؤوس من شفائها»؟
«نحن على دراية تامة بكل دقائق وتفاصيل السياسة في لبنان»، يقول السفراء، من البداية أكدت كل الدول الصديقة للبنان انّ رئيس لبنان يُصنع في لبنان، ولا دور للخارج في انتاج هذا الرئيس، سوى ان يشجّع على انتخاب هذا الرئيس. وفي لقاءاتنا مع السياسيّين اللبنانيين، نحاول ان نكون مَرنين الى اقصى الحدود، ونحاول ان نتلمّس معهم السبيل الذي يمكن ان يوفّق فيما بينهم لإنقاذ رئاسة الجمهورية، ونُبدي استعداداً كليّاً للمساعدة، والّا سيفوت الاوان ويُقاد لبنان الى وضع غير قابل للشفاء. وفي المقابل يوهِموننا بالتجاوب مع ما نُبديه، ولكن سرعان ما نُصاب بالاحباط».

 

جوهر كلام السفراء في هذا السياق هو انّ محاولات إنعاش رئاسة الجمهورية في لبنان قد نضبت في الداخل اللبناني بشكل كامل، وتِبعاً لذلك فإنّ الحلّ الرئاسي لم يعد لبنانياً، بل انه بات في أيدي اصدقاء لبنان، وثمة فرصة لحل رئاسي تمّ التأسيس لها في الاجتماع الخماسي في باريس، بمشاركة الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا والسعودية ومصر وقطر، وتحرّك على اساسها السفير السعودي وليد البخاري، وجاءت القمة العربية في جدة لا لتؤكد عليها فحسب بل لتلزم اللبنانيين بعدم تفويتها.

هنا يبرز كلام لسفير دولة عربية كبرى جاء فيه ما حرفيته: «انّ ما صدر عن القمة لا يقتصر على التوصيف، بل يشكّل خريطة طريق قد تمثل الفرصة الأخيرة التي ينبغي على الجميع في لبنان – او بالأصح على المعطلين الرئيسيين – التقاطها، لإلحاق لبنان بتحولات المنطقة وايجابياتها قبل ان تسبقهم، حتى لا نقول التقاطها قبل السقوط الكبير».

يضيف السفير العربي: «رياح الحلول والانفراجات بدأت تهبّ في المنطقة، وبمعنى أوضح هناك قطار بدأ سيره على السكة، لن يكون في مقدور أحد أن يوقِفه، وسيصل الى لبنان حتماً. ولبنان كما نعلم جميعاً يشكّل الحلقة الاضعف في المنطقة، وفرصة شموله بهذه الانفراجات هي أثمن ما يتمنّاه لإخراجه مما يتخبط فيه. ومع كل التقدير للمكونات السياسية في لبنان الا انها ليست صاحبة تأثير، او تمتلك القدرة على مواجهة هذه العاصفة غير المسبوقة في المنطقة، وبالتالي عليها ان تدرك انّ لبنان حاليا يقع ضمن نطاق رادار الاهتمام الدولي، لا سيما بالنسبة الى ما خَص انتخاب رئيس الجمهورية».

 

ويكرر السفير كلاماً وصفه بالمهم، قال إنّه سمعه من احد كبار المسؤولين في لبنان، جاء فيه ما حرفيّته: «التطورات المفاجئة في المنطقة لا ارى حدوداً لإيجابياتها الكبرى وانا على يقين من انها لا يمكن ان تَستثني لبنان، وصرتُ اكثر يقيناً مع الاجواء التي سادت القمة العربية، والمقررات التي انتهت اليها، لكنني لا استطيع ان أخفي قلقي، لا بل خوفي الكبير جداً من أن ينزلق البعض في لبنان الى مغامرات طائشة خَبِرنا مثلها من قبل، ولا ينفع الندم بعدها».

خلاصة كلام السفراء تفيد بأنّ المجتمع الدولي يريد للانتخابات الرئاسية في لبنان أن تحصل في اقرب وقت ممكن، وانطلاقاً من إدراكه انّ اللبنانيين لن يتمكنوا من الاتفاق وحدهم، سيكون لأصدقاء لبنان دور مباشر وحضور اكثر فاعلية وزخماً لمساعدة اللبنانيين على ان يختاروا الرئيس الذي يَرون فيه مصلحة للبنان ويحقق تطلعات اللبنانيين، وخلافاً لكل ما يقال ويشاع لا «فيتوات» مسبقة من أي جهة كانت على أي من المرشّحين، وإذا كان انتخاب الوزير سليمان فرنجية يحقّق ذلك فليكن، فالمهم هو ملاقاة انفراجات المنطقة بالتعجيل في إجراء الانتخابات وإعادة انتظام الحياة السياسية في لبنان وبناء مؤسساته الدستورية والحكومية، لأنّ أمامه طريقاً طويلاً من الخطوات العلاجية والاصلاحية التي تمهّد لطريق الخلاص من أزمته المالية والاقتصادية التي يدرك اللبنانيون، قبل غيرهم، انها اصبحت بالغة الصعوبة.