IMLebanon

المفاوضات “على ضهر” لبنان

 

ثلاثية «ذهبية» تشترك في المفاوضات اليوم حول مصير لبنان وشعبه، في ظلِّ غياب هذا الأخير كليَّاً عن الطاولة: دولة من دون رأس ورئيس، وفي كنف ما تبقّى من فتات شرعية حكومية، مستسلمة وغائبة طوعاً عن الإشتراك في هذه المفاوضات، ولكنها ستكون مرغمة حكماً بالتوقيع على هدر سيادة لبنان. المثلث «الذهبي» يتشكل من الولايات المتحدة الأميركية، إسرائيل و»حزب الله»؛ ولكن بمندوب عن هذا الأخير؛ لأنّ الشريكين الأولين يعتبران الشريك الثالث منظمة إرهابية، ولا يجوز الجلوس معه.

 

كلُّ طرف من هذا المثلث يعمل على تأمين مصالحه الخاصة على حساب «رجلٍ مريض» إسمه لبنان. كيف؟

 

تُحرِّكُ هذه المفاوضات الولايات المتحدة الأميركية، مدفوعة بمسؤولياتها الدولية وصداقاتها الإقليمية، لمنع انزلاق الوضع المتدهور في جنوبي لبنان، إلى حربٍ مفتوحة بين طرفي المواجهة: إسرائيل و»حزب الله»؛ خوفاً من إعادة تفجير لبنان من جديد، مع ما يترتب عن هذا التفجير من تداعيات فوق ساحات الشرق الأوسط كله؛ بحيث يصعب بعدها لملمة وضع المنطقة. أما الأسباب التي تدفع بالولايات المتحدة الأميركية إلى محاولة حلّ هذه الأزمة سلميّاً فهي:

 

– تحالفها مع إسرائيل التي تشكو من الإبتزاز أولاً والإستنزاف الحربي ثانياً واللذين يضغط بهما «الحزب» على مواطنيها. هذا الوضع المستجد والخطر في الحروب، أجبرها على اتِّخاذ قرارٍ بوضع حدٍّ نهائي لهذا التهديد سلماً أو حرباً؛ ما شكَّل دافعاً للولايات المتحدة الأميركية لحلِّ هذه الأزمة سلميّاً.

 

– صداقتها مع دولة ديموقراطية عريقة في هذا الشرق إسمها لبنان. ولأنّ تفجيره قد يتسبب بتفجير كثير من الساحات المجاورة في المنطقة، ما يُصعِّب أمامها لاحقاً إعادة الهدوء إلى المنطقة.

 

– مسؤولياتها الدولية في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، سواء في الشرق الأوسط أو أي بقعة أخرى في العالم.

 

بالمقابل تهدف إسرائيل من وراء هذه المفاوضات، إلى إعادة الإستقرار والأمان في الشمال، وذلك بوضع حدٍّ لهذا النوع من التهديد المستجد على حدودها الشمالية، بسبب وجود سلاح بيد منظمة غير شرعية، قابعة بوجه حدودها الشمالية، وجاهزة في كل لحظة، لاستدراجها لحروب استنزاف، تتكرر سنويّاً أو عقديّاً، ما يشكل إرباكاً دائماً لاستقرارها. لذلك اتَّفق قادتها على إلغاء هذا التهديد، ولعقودٍ مقبلة، سلماً أو حرباً. ما دفع بالولايات المتحدة الأميركية إلى المسارعة لحلِّ هذه الأزمة سلميَّاً بحكم مسؤوليتها الدولية وحفاظاً على صديقها لبنان من ويلات الحلِّ العسكري.

 

من جهته، يهدف «حزب الله» بواسطة وكيله المفاوض، إلى تفادي المواجهة المفتوحة مع إسرائيل، والتي يشهد نموذجها التدميري والمميت في غزه؛ كما يرصد مؤشراتها اليومية في الخسائر التي يتكبدها في صفوفه، وحجم عمليات التدمير والنزوح من الجنوب حتى قبل بدء المعركة أو الحرب الحقيقية…. فقرار «حزب الله» بمحاولة تجنُّب المواجهة العسكرية المفتوحة مع إسرائيل، تؤكده المناوشات العسكرية المحدودة التي بدأها في لبنان «دعماً» لغزه، ظنَّاً منه بأنّ انخفاض مستوى المواجهة الذي اعتمده يؤمن له، من جهة حفظ ماء الوجه الإقليمي في الدفاع عن شعاره «وحدة الساحات»، ومن جهة أخرى لاعتقاده بأنّ ذلك لا يشكّل سبباً كافياً أمام إسرائيل للذهاب إلى حربٍ مفتوحة لا يرغب هو فيها.

 

وبالرغم من ضخامة الخسائر التي تكبدها في الجنوب وصولاً إلى بيروت، لم يلجأ «الحزب» إلى التصعيد بالمثل، خوفاً من التوسعة وتعزيز المبرر لإسرائيل. ولكن في علم الحروب «صحيحٌ أنك تعرف كيف تذهب إلى الحرب، لكنك لاتعلم كيف تعود منها»، كما لا يمكنك التحكّم بمستواها لدى العدو. إذاً مهما تدنى مستوى المواجهة مع إسرائيل، يبدو أنّ هذه الأخيرة مصممة على وضع حدٍّ نهائي لهذا النوع من التهديد، سلماً أو حرباً، خاصة أنّ «حزب الله» كان البادئ، وهو غافلٌ عن مراميها.

 

بالرغم من مستوى السقف الخطابي المرتفع لأمين عام «حزب الله»، بظهوراته الإعلامية الأخيرة، والتي أصبحت بمثابة محاضرات جامعية؛ إلاّ أنّ «الحزب» يفضّل الحل السلمي، أيَّاً كانت سيئات وقائعه الجغرافية شرط ألّا يتعرض لقدراته القتالية التي يبعدها عن شمالي إسرائيل، وذلك لسببين: الأول لأنّ الهدف الأساسي من سلاحه ليس رمي إسرائيل في البحر المطروح للتغطية، إنما إحكام السيطرة على الدولة اللبنانية؛ والثاني هو إيجاد ذرائع لتغطية هذا السلاح، برفع شعارات جديدة ومضللة ضد إسرائيل ومناوشتها في الجنوب. هو يدرك جيداً أنّ مقاتليه الذين سقطوا في الجنوب هم ليسوا «شهداء على طريق القدس» لدعم غزه؛ إنما هم «شهداء على طريق طهران» لدعم إيران. شعارات عالية السقف غب الطلب، قد يفاجئُنا فيها الحزب لـ»حماية» السلاح، تبدأ بالدفاع عن الجنوب ولا تنتهي قبل تحويل مياه نهر الوزاني وقطعها عن مياه نهر الأردن.

 

كل ذلك يحصل على حساب «رجل مريض» إسمه لبنان ؛ حيث لا رئيس للدولة، لا حكومة شرعية جامعة، لا مجلس نيابياً فاعلاً في دولة مهترئة. فالإتفاق، سوف ينتج عنه إطلاق يد «الحزب» بسلاحه في الداخل اللبناني، ليستمر بالعمل لمشروعٍ مستحيل التحقيق: «حكم لبنان من مكون واحد». لذلك، فالمفاوضات قد تخفف الإنتكاسات للمريض، لكنّها لن تحقق له الشفاء، الذي يجب أن يبقى من صنع اللبنانيين. (*) نائب سابق في تكتل الجمهورية القوية