IMLebanon

“صفقة القرن” عائدة بعد اجتياح غزة

 

ستتكفّل عودة دونالد ترامب المرجحة إلى البيت الأبيض بإحداث تحول تاريخي في الشرق الأوسط، لمصلحة إسرائيل. ولذلك، تأتي حرب غزة في توقيت سيئ جداً للفلسطينيين وقضيتهم.

هناك ثوابت في الاستراتيجية التي تعتمدها الولايات المتحدة الاميركية في الشرق الأوسط، لا تتبدّل مع تبدّل الرئيس. ففي واشنطن، القرار الحقيقي في المسائل المتعلقة بالسياسة الخارجية والأمن يُتخذ على مستويات أعمق من البيت الأبيض. لكن ذلك لا ينفي وجود هامش واسع للرئيس وفريق الحكم والحزب الذي يحظى بالغالبية في الكونغرس.

 

الاستراتيجية الأميركية في المنطقة تقوم تاريخياً على ثوابت أبرزها: أمن إسرائيل والحلفاء العرب والأوروبيين، أمن مصادر الطاقة، ومنع الصين وروسيا والمحور الشرقي من التمدّد إلى هذه المنطقة التي تشكّل حلقة الوصل بين الشرق والغرب. وتحت هذه العناوين، اختلف الرؤساء والحزبان الديموقراطي والجمهوري على كثير من التفاصيل ووسائل التنفيذ.

 

العهود الثلاثة الأخيرة توالى فيها الحزبان على الحكم. ومع كل تبدّل، كان يختلف نهج العمل في الشرق الأوسط. فالرئيس باراك أوباما على مدى ولايتين متتاليتين (2009- 2017) كانت مقاربته للملف الفلسطيني أكثر توازناً. فهو تحت سقف الالتزام الثابت بأمن إسرائيل، تجنّب دعم التوسع والاستيطان، واختار الاتفاق مع طهران حول ملفها النووي، وارتأى أنّ سحب القوات من وُحول الشرق الأوسط هو الخيار الأفضل للولايات المتحدة.

 

نهج الخلف دونالد ترامب جاء مختلفاً. وعلى العكس، هو تبنّى مشروع «صفقة القرن» التي صاغها فريق لصيق به، وقريب جداً من إسرائيل. وعمل ترامب بالتنسيق مع بنيامين نتنياهو، وحقق مطالب إسرائيلية تاريخية، أبرزها:

 

1 – نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل.

2 – الاعتراف بضمّ الجولان.

3 – الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران وفرض مزيد من العقوبات عليها.

4 – دعم «صفقة القرن» (كانون الثاني 2020) التي تختصر الطموح الإسرائيلي إلى التوسع، خصوصاً في مجال الاستيطان، وتثبيت يهودية الدولة وتهميش الفلسطينيين.

5 – إطلاق أوسع حملة للتطبيع بين إسرائيل والعرب. وقد شملت في مراحلها الأولى الإمارات والبحرين والسودان والمغرب.

 

وعلى الأرجح، لو فاز ترامب بولاية ثانية، لذهب أشواطاً بعيدة في هذا النهج. لكن فوز جو بايدن، نائب الرئيس في عهد أوباما، قطع هذه الاندفاعة الجمهورية في الشرق الأوسط.

 

لكن المثير هو أنّ ترامب فوجئ بمسارعة نتنياهو إلى تهنئة بايدن فور نجاحه في الانتخابات الرئاسية، فيما كان هو يرفع الصوت اعتراضاً وتشكيكاً بالنتيجة. ومع أنّ الإسرائيليين برّروا التهنئة يومذاك بأنّها تصّرف بروتوكولي طبيعي بين زعيمي دولتين حليفتين، وأنّها لا تنطوي على أي أبعاد سياسية داخلية، فإنّ ترامب ردّ بقطيعة مع نتنياهو. إذ لم يُعلَن عن أي اتصال تمّ بين الرجلين منذ خروج الأول من السلطة.

 

لكن محاولات نتنياهو التقرّب من بايدن، بهدف تشجيعه على المضي في نهج ترامب، لم تنجح. ولم يظهر أي انسجام بين الرجلين. وبقيت المقاربتان متباعدتان في المسائل الأساسية كحل الدولتين والاستيطان، والتعاطي مع إيران.

 

ولذلك، ربما يكون الفلسطينيون والعرب، أي السلطة و»حماس» والأنظمة العربية، قد فوّتوا فرصة وجود بايدن في البيت الأبيض لتحصيل أفضل ما يمكن، لأنّ عودة ترامب ستجعلهم في وضع أكثر صعوبة. فقد كان عليهم أن يتوحّدوا في خطة عمل ويضغطوا معاً لإنتاج تسوية تنطلق من مقررات قمّة بيروت في العام 2002. وكان المناخ مؤاتياً في واشنطن أحياناً. ففي آذار 2022، وجّه 12 نائباً أميركياً رسالة إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن، طالبوا فيها إدارة بايدن بإلغاء «صفقة القرن» رسمياً. ولكن، في غياب الضغط الكافي من جانب الديموقراطيين أو العرب في هذا الاتجاه، بقيت «الصفقة» حتى اليوم في وضعية المجمّدة، بلا تنفيذ ولا إلغاء.

 

وبايدن نفسه أعلن مراراً تأييده «حل الدولتين»، ودعمه إعادة فتح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، والعمل لتسوية دائمة بعيداً من مرجعية «صفقة القرن»، لكنه لم يبذل عملياً أي جهد في هذا الاتجاه، ولم يتمكن من فرملة عمليات الاستيطان المتسارعة والقضم التدريجي للمناطق الفلسطينية. بل هو تجنّب القيام بأي خطوة نحو إلغاء المكاسب التي انتزعها الإسرائيليون في عهد ترامب. كما أنّه لم يعلن خطة أميركية بديلة منها.

 

الفلسطينيون والعرب سيجدون أنفسهم في وضع أكثر صعوبة بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض، إذ سيطلق العنان لمشروعه على مدى 4 سنوات. ولذلك، لن ينهي الإسرائيليون حرب غزة في الأشهر القليلة المتبقية من عهد بايدن، إلاّ إذا حقّقوا تماماً أهدافهم باجتياحها بعد تدميرها وتهجير نصف سكانها على الأقل، ما يسمح لهم بفرض أمر واقع في الملف الفلسطيني قد لا يعود تغييره ممكناً. ولذلك، سيظهر يوماً بعد يوم أنّ حرب غزة حضّرت الأرضية المناسبة لإمرار «صفقة القرن»، وأنّ نتائجها كانت كارثية على الفلسطينيين وقضيتهم.