IMLebanon

نظرة بديلة لنقد الدور الإنجيلي الأميركي في سياسات بلادهم الخارجيّة

 

يتطلّب المقال الذي نشرته صحيفة «الجمهوريّة» في ٧ شباط ٢٠١٨ على يد السفير مسعود المعلوف ردّاً إنجيليّاً عربيّاً، بعضه تأييداً لما يشير إليه من مخاطر بعض الأفكار الإنجيليّة الأميركيّة، وبعضه تصحيحاً لمعلومات غير دقيقة عن الإنجيليّين يشير إليها الكاتب، وبعضه إنذاراً لأصدقائنا الإنجيليّين في أميركا.

بدايةً نشكر صاحب المقال على فضحه لبعض القناعات اللاهوتيّة الخطيرة التي دخلت فكر بعض الجماعات الإنجيليّة في أميركا، التي أخفقت في مزجها للإيديولوجيّة الصهيونيّة السياسيّة المتعلّقة بدولة إسرائيل بعقيدتها الإنجيليّة. فنحن كإنجيليّين عرب في جدل متواصل مع هذه الأقطار من العائلة الإنجيليّة العالميّة منذ سنين.

وثمّة كتابات عديدة في هذا الصدد، كتبها إخواننا من الإنجيليّين الفلسطينيّين أمثال يوحنّا كتناشو (The Land of Christ: A Palestinian Cry) وسليم المنيّر (Through My Enemy’s Eyes) في بيت لحم، كما من الإنجيليّين الأجانب أمثال كولن تشابمن (أرض الميعاد لمَن؟ والقدس لمَن؟) وستيفن سايزر (Christian Zionism: Road-Map to Armageddon? وZion’s Christian Soldiers?) في بريطانيا وغاري بورج (Whose Land? Whose Promise?) في أميركا، والتي تفضح المصادر العقيديّة الشائكة للفكر الإنجيلي المتصهيِن.

فهذه الكتابات، وغيرها كثيرة، كتبها هؤلاء باللغة الإنكليزيّة لمخاطبة الانحراف اللاهوتي المتسلِّل في بعض فئات الإنجيليّين الغربيّين. نحن الإنجيليّون العرب، مع جزء كبير من الإنجيليّين حول العالم، نعتبر مكافحتنا لهذه الأفكار المنحرِفة بموازاة مسؤوليّة المفكّرين المسلمين المناهضين للتفاسير والممارسات المتعجرفة للإسلام التي مارسها أصحاب الفكر الداعشي في السنوات الأخيرة.

فمِن الخطأ أن يتعاملَ أصحابُ العقيدة المستقيمة بالفكر المنحرِف بمجرّد التنكّر منه واعتباره دخيلاً على دينهم من غير مواجهته بالعقيدة الصحيحة. فلكلّ فكر سليم أعداؤه من الداخل، ولطالما اعتبرنا أنّ مواجهة الإنجيليّة المتصهيِنة هي من مسؤوليّاتنا الأساسيّة.

أمّا في شأن المعلومات غير الدقيقة التي وردَت في مقال المعلوف، وهو معذور عنها لصعوبة التعريف عن حركة لامركزيّة مثل الحركة الإنجيليّة العالميّة، ففي أساس الفهم السليم للحركة الإنجيليّة الاعتراف بالتعدّدية الجوهريّة الكامنة في هذا الفكر. فالإنجيليّون لا بابا لهم ولا بطريركاً، بل نحن حركات وكنائس متفرّقة، تجمع لقاءاتنا مئات الملايين من العِباد عبر العالم، تجمع بيننا بعض المبادئ والاعتقادات الأساسيّة التي تَوافق تاريخنا وكتاباتنا عليها.

ويتّفق أفضل ممثّلينا، مثل جون ستوت (Evangelical Truth)، وجي. آي. باكر (The Evangelical Anglican Identity Problem)، ودي. دابليو. بابينغتون (Evangelicalism in Modern Britain)، وأليستر مك غراث (Evangelicalism and the Future of Christianity)، على الأفكار التالية كروابط مشتركة تمثّل الفكر الإنجيلي ولا يجوز الإضافة إليها بشكل عشوائيّ. فإليكم المبادئ الستّة الأساسيّة التي تُعتَبَر بمثابة «إجماع» بين العائلات الإنجيليّة العالميّة: (١) مصداقيّة الكتاب المقدّس ومركزيّته كأساس مطلق لإنشاء الخطاب اللاهوتي السليم. (٢) عظمة السيّد المسيح وموته على الصليب لافتداء البشريّة. (٣) أولويّة إعلان بشارة الخلاص بالقول والعمل التغييريّ في المجتمع. (٤) حتميّة التغيير القلبي عند الفرد، ويُعبَّر عنه بـ»الولادة الجديدة،» كمبدأ أساسي للحصول على الخلاص والحياة الأبديّة. (٥) أهميّة انتماء الفرد إلى الجماعة الإيمانيّة والمواظبة على اجتماعات الجماعة لعبادة الله وممارسة الفرائض كالمعموديّة وكسر الخبز (الإفخارسطيّة). و(٦) سيادة الروح القدس المحيي على الكنيسة الواحدة الجامعة الرسوليّة.

فمن الخطأ أوّلاً أن يُعتبَر الإنجيليّون الأميركيون هم ممثّلو الفكر الإنجيلي العالمي، ناهيك عن جمع إنجيليّي أميركا في كتلة واحدة. ومن غير الدقيق أن يُشار إلى تاريخ نشأتهم بأنّه معارَضةٌ لـ»الحداثة والتجدّد» أو رغبةٌ بـ»التمسّك بالتقاليد الدينيّة» بطريقة عمياء.

فالواقع على الأرض عندما ننظر إلى مساهماتهم في تقدّم العلوم الطبيعيّة والتكنولوجيّة تفيد عكس ذلك. ونكتفي في هذا السياق ذكر اسم البروفيسور فرانسيس كولنز، الذي ترأّس «مشروع الشفرة الوراثيّة البشريّة» من ١٩٩٣ إلى ٢٠٠٨ وأوصلها إلى خواتيمها، وتكرّم بسبب هذا الإنجاز على عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما.

ومن ناحية أُخرى، يصيب المعلوف في اتّهامه لبعض القادة الإنجيليّين المتطرّفين الذين ساهموا في زيادة التطرّف في السياسات الخارجيّة لحكومات أميركيّة جمهوريّة متتالية، ممّا تسبّب بأضرار باهظة على القضيّة الفلسطينيّة، بسبب دعمهم الأعمى لدولة إسرائيل على حساب العدل والإنصاف تجاه الفلسطينيّين.

ويصيب المعلوف أيضاً عندما يشير إلى أسباب هذه السياسات التي تختبئ خلف تفسيرات إسخاطولوجيّة (التي تُعنى بعقيدة الشؤون الأخيرة) لمقاطع كتابيّة، التي لا توافق عليها الأكثريّة من اللاهوتيّين الإنجيليّين في العالم.

وصحيح أيضاً أنّ جمهوراً كبيراً من الإنجيليّين الأميركيين دعموا حملة الرئيس دونالد ترامب وكانوا سبباً لوصوله إلى البيت الأبيض، ولكن ما دفعهم إلى ذلك كان الخيار الآخر، أي السيناتور هيلاري كلينتون، التي اعتبروها بديلاً كارثيّاً لاهتماماتهم الأخلاقيّة، علماً بقناعاتها وسياساتها تجاه قضايا الإجهاض، وزواج المثليّين، ومعارضتها لدور التعليم الديني في المدارس والمؤسّسات العامّة.

وكما نعلم، السيناتور كلينتون ليست بصديقة للفلسطينيّين، بل كانت سياساتها الخارجيّة الداعمة لإسرائيل أنتجت ما هو أسوأ للواقع الفلسطيني ممّا هو عليه الآن. وهذه الحقيقة بحدّ ذاتها يجب أن تستوقفنا في نقدنا الصرف لدورهم في إيصال ترامب إلى الرئاسة، بغض النظر عن موافقتنا مع خيار الشعب الأميركي لرئيسهم أم لا.

وأخيراً، فنحن كإنجيليّين عرب، لا يزعجنا أن يوجّه صحافيٌّ مخضرم مثل السفير المعلوف نقداً لاذعاً لأفكار عقيديّة نقوم نحن بتفنيدها على نحوٍ متواصل منذ عشرات السنين. ولكن من المنصف أن نفرّق بين الاعتقادات القويمة والاعتقادات المنحرِفة في الجماعة الواحدة.

ويشير الأمين العام للاتّحاد المعمدانيّ العالميّ، الدكتور إيلايجا براون، إلى أنّ المجتمع المعمداني العالميّ اليوم منقسم بين مَن هم ما دون الأربعين من العمر ومَن هم فوق الأربعين.

فجيل المعمدانيّين الشباب يختلف عن أسلافه في اهتماماته بالشؤون الاجتماعيّة والسياسيّة التي تتطلّب نظرة جديدة وثوريّة عادلة (من المنطلق المحافظ) بتعاملهم مع القضايا العالميّة مثل القضيّة الفلسطينيّة. فالنقد والتقويم إذاً هما أساس الإصلاح البروتستانتي والإنجيلي تاريخيّاً على حدٍّ سواء، وهما أساس التقدّم الفكري والتغيير المجتمعي.

ويخدم المعلوف مصالحنا نحن كإنجيليّين عرب عندما يشير إلى الأذى العميق الذي يَنتج عن كتابات بعض إخواننا الإنجيليّين في أميركا وخطاباتهم وممارساتهم الناتجة عن بعض الأيديولوجيّات العمياء التي تحتاج إلى نقد وتصويب. فليُتَرجَم مقالُه إلى الإنكليزيّة ونحن أوّل مَن يروّج له بين أصدقائنا في أميركا!

* مدير معهد دراسات الشرق الأوسط
في كليّة اللاهوت المعمدانيّة العربيّة (المنصوريّة، لبنان
)