إذا كان الرئيس ميشال عون نفسه مستاءً من طريقة إدارة الملف المالي- الإداري، فكيف سيتم إقناع «الأجانب» أنّ الطاقم السياسي يسير في طريق الإصلاح؟ وفيما أرجأت القوى السياسية اجتماعها الذي كان مقرراً أمس، للتوافق على البنود، برزت الخلافات التي تحاول إخفاءها، كرمى لعيون الموفد الرئاسي الفرنسي بيار دوكان و«سيدر» وجهاته المانحة…
كل التحضيرات جارية ليوم الامتحان، يوم يعود دوكان ويقول كلمته: «ما فعلتموه مُقنِع لتحصلوا على المساعدات أو غير مُقْنع». ولطالما كان الطاقم السياسي اللبناني «يؤقلم» المؤسسات المانحة مع فساده، ويجبرها على التعايش مع هذا الفساد باعتباره أمراً واقعاً لا مفرّ منه. واليوم، يبدو وكأن دوكان والجهات المانحة قد انتفضوا على الفساد اللبناني وقرَّروا عدم العودة إلى «نموذج التعايش» معه.
يقول أحد الذين التقوا دوكان في زيارته الأخيرة لبيروت: «اكتشفنا أنّه يعرف الملف في العمق، ولا يمكن أن نُخفي عنه أمراً. والإحراج الكبير أصابنا عندما وضع أمامنا مجموعة من الأرقام الدقيقة المتعلقة بأبواب الهدر والفساد في لبنان.
لقد فضَحَنا عندما كشَفَ التنفيعات والسرقات والسمسرات التي يتقاسمها أركان الطاقم السياسي في ما بينهم، وأبرزها تلك المتعلقة بدعم الجمعيات والهيئات، وتلك الواردة تحت عنوان مصاريف مختلفة أو سرّية، وما من أحد مضطر إلى تبريرها أو تقديم الكشوفات عنها.
لقد تبيَّن أنّ السياسيين في لبنان- إجمالاً- يعتبرون الدولة مجرّد «خَزْنَة» لهم ومزراب ذهب. وهم يستخدمونها لتكديس الثروات والصرف على الحملات الانتخابية وعلى المحاسيب ورشوتهم بالوظائف والخدمات. ولذلك، يتهافت كثيرون على الانضواء في الأحزاب والقوى السياسية القوية في السلطة.
بواسطتها يستطيعون الوصول إلى المجلس النيابي أو الحكومة أو إدارات الدولة، ويجمعون الأموال الطائلة بطريقة غير مشروعة، ولكن آمنة، لأنّ أحداً لا يحاسبهم بعدما تمّ تعطيل القضاء والقوانين ومؤسسات الرقابة والمحاسبة.
وعلى مدى عشرات السنين، تمّ إهدار مليارات الدولارات بالتواطؤ بين السياسيين. وأمّا النزاعات التي تدور في ما بينهم، على هذا الموقع الوزاري أو الإداري أو ذاك، فغالباً ما تكون من أجل الغنائم أو لرشوة المحاسيب.
وهكذا، يمكن إدراك كيف تمّ توظيف أكثر من 5 آلاف شخص في الإدارة، قبيل الانتخابات النيابية الأخيرة، على رغم القرار بتجميد التوظيف. ولماذا أساساً تمّ التسرُّع في إقرار سلسلة الرتب والرواتب على رغم تحذيرات المؤسسات الدولية على مدى سنوات. كذلك يمكن إدراك لماذا يحتشد 15 ألف موظف في الدولة، لا عناوين وظيفية محدّدة لهم.
ومع ذلك، لا أحد يتحدّث عن محاربة الفساد بالمعنى الحقيقي، أي تطهير الإدارة وفتح الملفات في وضوح واسترداد الدولة أموالها المسروقة. وأقصى الطموحات اليوم هو الحل المجتزأ و»الجبان»: خفض الرواتب ومعاشات التقاعد وزيادة الضرائب والرسوم.
وعدا عن ذلك، تمّ فقط إقرار خطة للكهرباء تحت ضغط الجهات المانحة وبمشاركة ممثليها. ولكن، حتى المعنيون بهذه الخطة يُبْدون الحذر من إمكان إحباطها كسابقاتها. أي إنّ خطة الكهرباء ليست مضمونة، على رغم الضغوط الخارجية والوعود الداخلية.
وفي الاستنتاج، يتبيّن أنّ الطاقم السياسي المُمسك بالسلطة والمال في البلد لم يقتنع- وحتى الآن- بالإصلاح الحقيقي، بل يريد تمرير شروط «سيدر» «بالتي هي أحسن»، وبعد ذلك يعود كل شيء إلى ما كان عليه.
وهنا يبرز عمق الأزمة. فغالبية القوى السياسية تحصل على المال من مصدرين: من دولةٍ أو دولٍ عدّة خارجية، ومن داخل الدولة اللبنانية. وليس سرّاً أنّ التمويل الخارجي في تراجع دائم منذ سنوات، لدى القوى السياسية كافة. ولذلك، بات اتكال الجميع أقوى على التمويل من داخل الدولة.
لذلك، لا تريد القوى السياسية أن تسير في خطوات إصلاحية جذرية، وتفضّل الاكتفاء باللعب على الأرقام: خفض أرقام من هنا وزيادة أرقام من هناك.
والأرقام يمكن أن تترجم جزءاً من عملية إصلاحية متكاملة، لكن الإصلاح في جوهره هو فكرةٌ شاملة، وليس مجرّد إجراءات متفرقة.
مثلاً: كيف يمكن الانطلاق بالإصلاح ما لم تتوافر له الأرضية التي تحميه؟ والأبرز هنا تنظيف القضاء وحمايته وتحصينه لكي يقوم بالمراقبة والمحاسبة، ومعه أجهزة الرقابة والتفتيش والمحاسبة التي تمَّ دفنها على مدى عشرات السنين، بحيث تكون للقضاء وهذه الأجهزة كامل القدرة على القيام بدورها كاملاً.
وكيف يجري الحديث عن إصلاح، فيما التهرُّب الضريبي مستمرٌ من دون مراقبة أو محاسبة، وعلى أيدي النافذين وجماعاتهم. ويقدّر البعض أنّ حجم الهدر الناتج من التهرُّب يوازي الهدر في قطاع الكهرباء!
وحتى اليوم، لم تُطرَح إطلاقاً فكرة تنظيف القطاع العام الفضفاض والمترهّل، من الفاسدين والمهملين، على رغم من أن تنفيذها كان حيوياً قبل منح الجميع سلسلة الرتب والرواتب وإغراق البلد في أزمته الخطرة. والسبب، أنّ الجميع له حصّة في هذا الفساد.
واليوم، ليس معيار الكفاءة هو الأساس في عملية تخفيض الرواتب. وهذا سيدفع بالصالح إلى أن يكفر بالمبادئ ويحتذي بالطالح. فأين الإصلاح في هذا الأمر؟
ومرة أخرى، لا تتضمن الموازنة الإصلاحية أي حوافز للتنمية وإقامة مشاريع منتجة، صناعية أو زراعية أو سياحية مثلاً، بل مجرد لعبٍ على أرقام الفوائد والسندات والودائع. وهذا الخطأ إياه يتكرَّر منذ عشرات السنين.
وأما أبواب الهدر الواضحة داخل مؤسسات الدولة، كالإيجارات بأسعار خيالية لمؤسسات رسمية كثيرة في مختلف المناطق، والفائض في أماكن أخرى، فلا أحد يتحدث عنها. ولا طبعاً المخصصات المشبوهة لعدد من الموظفين وأعضاء مجالس الإدارة الكبار، المرتبطين بصِلاتٍ مباشرة مع هذا الزعيم أو ذاك.
الواضح أنّ الطبقة السياسية تمارس نوعاً من «الخبث الإصلاحي» لتمرير المرحلة فقط، و«الضحك على» بيار دوكان وشُرَكاه. وهي لا تريد أن تخرب «الوَكْر» الذي تؤمِّن منه مردودها وتستمد قوتها. فلا يهمّها أن ينهض البلد، بل أن تحافظ على منافعها.
لقد كان لافتاً، قبل يومين، إعلان الولايات المتحدة الأميركية عن مكافأة تصل إلى 10 ملايين دولار لكل من يدلي بمعلومات حول تمويل «حزب الله». وتشمل المعلومات أسماء المانحين والممولين والحسابات المصرفية والإيصالات الجمركية والمعاملات العقارية.
وتقدّر الخارجية الأميركية مداخيل «الحزب» بنحو مليار دولار سنوياً، تتأمّن عبر دعم مباشر من إيران ومبادلات واستثمارات دولية وشبكة من المانحين وأنشطة أخرى.
في المقياس إياه، سيكون منطقياً أن تخصّص الجهات المانحة مكافأة بـ10 ملايين أخرى لكل مَن يرشد إلى الفساد الفعلي، لا الشكلي، في داخل الدولة اللبنانية.
وفي أي حال، جميع الأطراف النافذة في السلطة، قادرة – هي ومحاسيبها- على امتصاص الملايين من الدولة، وقد يصل بعضها إلى المليار أيضاً!