«لا تنازُلَ بعد اليوم». هذا هو الخطاب الجديد لـ»العونيّين» و»القوات». وهو انتقالٌ صارخٌ للمطالبة بالحقوق المسيحية من التردُّد إلى التمرُّد. هناك مسيحيّون يشعرون بنشوةِ الخطاب الحماسي ويتفاءَلون، لكنّ آخرين يضَعون أيديَهم على قلوبهم، وينفخون اللبن. فلطالما كواهُم الحليب!
المسيحيون مرتاحون إلى أنّ العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع يستعدّان للتلاقي وتوقيع ورقة «إعلان نيّات». فقد تعبَ المسيحيون من الصراعات البيتية، ومن جرّائها خسروا ويخسرون الكثير، ويحتاجون إلى أن يعيشوا «يومين متل الخَلق»، كما قال جعجع قبل فترة.
ويَجدر إعطاء الحوار العوني – القواتي حقّه. فعلى الأقلّ، في ظلِّه تراجعَت المناكفات والعنتريات السخيفة في الأحياء والجامعات والإعلام ومواقع التواصل… وحتى في الكنائس!
وأمّا البنود الـ 16 المنتظَر أن يوقّع عليها الطرَفان، فبعضُها حيوي جداً للمسيحيين: قانون انتخاب يعكس المناصفة الحقيقية لا الشكلية، إقرار اللامركزية الإدارية الموسَّعة، إستعادة المتحدّرين جنسية أجدادهم ومسائل التوطين والنازحين.
من حقِّ «التيار» و«القوات» أن يطلبا من المسيحيين فرصة جديدة ليؤكّدا أنّ ما يفعلانه ليس مناورة يوظّفها كلّ منهما لتحسين صورته أو وضعِه. ولكن من حقِّ الرأي العام المسيحي أن يَحتفظ بهامش واسع من الشكّ.
فهناك كمّيات وافرة من الأوراق والوثائق والعهود بين زعماء المسيحيين، وبعضُها مُكرَّس باليمين المعظَّمة أمام بكركي وبطريركها. ولكن، عند التجربة، رضَخ العونيّون و«القوات» لاعتبارات أخرى، واتّخذوا قرارات تقتضيها المصلحة المشتركة مع الحلفاء في 8 أو 14 آذار. ومهزلة «الأرثوذكسي» تاريخية.
فهل خرجَ العونيون و«القوات» من التردُّد إلى التمرُّد، وما هو السقف الذي يمكن أن يبلغَه هذا التمرُّد؟ لم يسبق لعون أن بعثَ برسائل إلى «حزب الله» من نوع «مَن يتركْني أتركْه». و»سنواجه الجنوح إلى السيطرة وإضعاف المسيحيين»، على رغم لقائه السيّد حسن نصرالله.
ولم يبلغ التحدّي مستوى ما أعلنَه الوزير جبران باسيل: «لا حكومة ما لم تتّخذ قراراً بالتعيينات الأمنية بمشاركتنا، ولا مجلس يشرِّع من دون قانون انتخاب يمثِّلنا، ولا جيش من دون قيادة شرعية… وإلّا فتعالوا الآن إلى «المَشْكَل»! وأمّا جعجع فرفعَ السقف: لا تشريع في غياب قانونَين: الانتخاب واستعادة الجنسية.
للوَهلة الأولى، يمكن تفسير الانتفاضة العونية – القواتية بالآتي:
1- عندما يتجاوز «المستقبل» و«حزب الله» حرباً مذهبية طاحنة من المحيط إلى الخليج ويتحاوران وينظّمان الخلافَ الداخلي، يصبح طبيعياً – لماء الوجه أو للتاريخ – أن يتحاور مسيحيّو لبنان الذين أنهوا حروبهم… وأنهَتهم، والذين يجمعهم مصير واحد.
2- إستتباعاً، يشكّل الحوار المسيحي ردّاً على رغبة واضحة لدى الآخرين في إدارة البَلد بمنطق «الحلف الرباعي»، أي بتجاهُل المسيحيين. فما يتّفق عليه الممسِكون بالحكومة والمجلس يجري تمريره، ولو عارضَه المسيحيون.
3- هناك مأزقٌ مصيريّ دخَلته الأقلّيات، المسيحية والدرزية خصوصاً، في الصراع الإقليمي. وفيما يتقلّص الحضور المسيحي التاريخي، وربّما إلى غير رجعة، بدءاً من العراق، يبقى لبنان آخرَ قلاع التنوُّع الطائفي والمذهبي والثقافي. فهل يستمرُّ نموذج الزعامات المسيحية اللبنانية، نموذج التنافر والهروَلة وراء المصالح الصغيرة، فيما المصير على كفّ عفريت؟
4- وهذا هو الأهمّ. هناك انطباع بأنّ تقاربَ عون وجعجع هو جزء من السياق الإقليمي العام. فالمنطقة تتّجه إلى فرزٍ طائفي ومذهبي وقومي. فالعراق لن يعود موحَّداً. والانتفاضة الكردية في إيران تطرَح أسئلة عن جمعِ شملِ الأكراد في إيران والعراق وسوريا. وأمّا الشيعة فستكون لهم دولتُهم هناك، فيما السُنَّة سيشكّلون أطُراً جديدة مع سُنَّة سوريا… التي يتكرّس انهيارُها كدولة مركزية.
وهكذا يكون طبيعياً أن يبحث المسيحيون – والدروز- عن أطُر تصون وجودَهم. وهذا ما يستدعي بلوَرةَ مشروع جديد للكيان اللبناني يُفترَض أن يكون المسيحيّون شركاءَ في صياغته.
إذا كانت هذه القراءة في محلِّها، فـ«التمرُّد» العوني – القواتي سيتصاعد ويَشلّ المؤسسات… وإلّا فإنّ حلفاءَ عون وجعجع مضطرّون إلى الاستجابة: قانون الانتخاب، الجنسية، التوطين، اللامركزية الموسّعة… وانتخاب رئيس «قوي» للجمهورية «يمثّل بيئتَه» وسوى ذلك، عِلماً أنّ عون وجعجع قادران على فرض الرئيس، الآن، لمجرَّد الاتّفاق عليه.
في أيّ حال، لا تبدو مؤشّرات استجابة للمطالب العونية – القواتية الأخيرة. وعلى العكس، أطلّت ملامحُ التصعيد المقابل من وزير المال علي حسن خليل: «رفضُكم التشريعَ سيحرمنا 600 مليون دولار من البنك الدولي». وقد تكرُّ المواقف على مستويات أرفع.
حتى الأمس، بقيَ زعَماء المسيحيين ينصاعون إلى مزيج من المصالح الخاصة والسياسية ويتردَّدون. وأمّا اليوم، فيقولون إنّهم سيتمرَّدون. وهنا تكمن صدقيتُهم. ومِن هنا تستمدّ الوثائق قيمتَها لا من التواقيع.
في ورقة «إعلان النيّات»، المهم ليس الورقة ولا الإعلان. المهم هو النيّات. فـ»إنّما الأعمال بالنيّات».