IMLebanon

الرئيسان عون وميقاتي أمام محكمة التاريخ

 

المصيبة الكبرى وسوء الطالع اللذان حلا على لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية ووضع اتفاق الطائف في مطلع تسعينيات القرن الماضي يتمثلان بطبقة من السياسيين الفاسدين من امراء الحرب الذين قتلوا النّاس ودمروا المدن ونشروا الفساد في الدولة والمجتمع دون رادع أو وازع، وبحزب الله الذي نظمه ودربه وسلحه الحرس الثوري الإيراني منذ عام 1982 ليشكل رأس حربة للتدخلات الإيرانية في لبنان وفي عدد كبير من الدول العربية. لقد فرض الحزب من خلال سلاحه وتحالفه مع التيار الوطني الحر كمعادلة صعبة على المستويين العسكري والسياسي ولم تقتصر الاضرار الكبيرة التي تسبب بها الحزب للبنان على الاضرار المباشرة لحرب عام 2006، بل تعدتها إلى تخريب علاقات لبنان التاريخية مع عدد من الدول الخليجية، وذلك من خلال اتهام عناصر من الحزب بالاعداد لعمليات «ارهابية» تُهدّد أمن واستقرار هذه الدول، بالإضافة إلى شن حملات إعلامية تتهم الأسر المالكة بالفساد والخيانة والارتهان للقوى الامبريالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة «الشيطان الأكبر» وفق التوصيف الإيراني.

ad

 

يقف لبنان اليوم منهوك القوى امام استحقاقين داهمين: الأوّل، تشكيل حكومة إصلاحية قادرة على تنفيذ المبادرة الفرنسية، ونحن نواجه وللمرة الثالثة خلال عام، ومنذ استقالة حكومة حسان دياب في 10 آب الماضي، هذا الاستحقاق دون جدوى، حيث اجبرت المصالح السياسية الضيقة رئيسين مكلفين هما السفير مصطفى أديب والرئيس سعد الحريري على الاعتذار والانكفاء، فاتحين الطريق لمشاورات نيابية ملزمة يقوم بها رئيس الجمهورية، والتي أفضت يوم الاثنين الماضي إلى تكليف الرئيس نجيب ميقاتي، والذي قبل بتلقف «كرة النار» رغم ادراكه لكل المؤامرات التعجيزية التي وضعها الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل كرئيس للتيار الوطني الحر في طريقهما، بهدف احراجهما لاخراجهما، وهذا ما حصل بالفعل.

 

بالرغم من ادراكنا لذكاء الرئيس ميقاتي وحنكته السياسية، وبالرغم من وقوف التيار السني العريض وراء تكليفه، فإن مهمته لن تكون سهلة في تمرير تشكيلة حكومية، فمعظم وزرائها من الاختصاصيين المستقلين، ولذلك نرى ضرورة تحذيره من مواجهة نفس العقبات والحواجز التي واجهها كل من أديب والحريري، والتي تركزت حول النوايا المبيتة لعون وباسيل على تخريب دستور الطائف، من خلال تفسيرات غير واقعية وغير منطقية لتفسير المواد الدستورية ذات الشأن لجهة عملية تشكيل الحكومة أو من خلال خلق اعراف سياسية لا يقرّها الدستور أو الميثاق الوطني. واللافت الآن بأن عون وباسيل قد اضافا حجة جديدة إلى حججهما السابقة، بالحديث عن ان «اتفاق الدوحة» قد أقرّ وجود ثلث معطّل داخل الحكومة. يمكن في الواقع اعتبار هذه الحجة الإضافية قمّة الغباء السياسي، وبأنه لا يمكن فرض اعراف على دور رئيس الحكومة وآلية التشكيل، والتوازنات الوطنية، فرضت بقوة سلاح حزب الله، عندما اجتاح مسلحوه بيروت وبعض مناطق الجبل، قافزين فوق الدستور والميثاق، وفوق الحقوق والتوازنات الطائفية والمذهبية، التي اعتمدت كأساس للميثاق الوطني، والتي جرى تثبيتها في دستور الطائف خلال المرحلة الانتقالية، وإلى ان يجري البحث والتوافق على إلغاء الطائفية السياسية لصالح قيام دولة مدنية علمانية يتساوى فيها جميع المواطنين في الحقوق والواجبات.

 

اني اعرف الرئيس ميشال عون منذ 64 سنة أي من أيام المدرسة الحربية، وعملنا سوية في مهمات مشتركة، ولذلك يمكنني الادعاء بمعرفة منهجيته الفكرية، واساليبه الخاصة لتحقيق الأهداف والمكاسب الشخصية، حيث باتت ثابتة لا يمكن التراجع عنها أو تعديلها.

 

من هنا يمكنني ان اتوقع استمرار الرئيس عون في رفع كل المطالب وتقديم كل الحجج والمناورات التي استعملها خلال تسعة أشهر مع سعد الحريري، وفي رأيي الشخصي فإن المنهجية الفكرية التي يعتمدها عون تقوم على «نظرية الفوضى»، وهي نظرية غير معروفة من أكثرية المتعاطين في الشأن السياسي. لقد سبق ان أثبت العماد عون استعماله لهذه النظرية في المؤسسة العسكرية، كما في حياته السياسية كرئيس للحكومة المؤقتة أو كرئيس للجمهورية. وتقوم هذه النظرية على اتخاذ قرارات خطيرة في مرحلة حرجة بحيث تضع الجميع عند حافة الهاوية. وللتأكد من اعتماد الفاعل العقلاني لنظرية الفوضى، فإنه يمكن استعادة هذه القرارات وتحليلها بعد انتهاء المرحلة الحرجة، لنجد بأنه كان من المستحيل ان تنفذ لتحقيق الغايات المرجوة منها.

 

في نفس الوقت فإني أرى ان الرئيس ميقاتي، الذي من خلال متابعتي له سواء كرجل أعمال أو كنائب أو كوزير أو كرئيس حكومة لمرتين سابقتين، هو وجه نقيض مع «نظرية الفوضى» حيث انه يتبع فكرياً المدرسة الواقعية التي ترتكز على اجراء «الحساب الاقتصادي» وقياس بالتالي مدى الربح والخسارة من القرار الذي يتخذه.

 

تدفعني معرفتي للرئيسين إلى التساؤل عن مدى قدرتهما على إيجاد أرض مشتركة بينهما لينجحا في تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين. اقول هذا الكلام مع الأخذ بعين الاعتبار الأهمية التي يعلنها كل منهما على تشكيل حكومة تخدم أهدافه ومستقبله السياسي. في تقديري الشخصي فالرئيس ميقاتي ملزم بالموقف السني العام، المطالب بالحفاظ على دور رئاسة الحكومة وفق نص وروح دستور الطائف. كما انه ملتزم سياسياً بالرؤية التي عبّر عنها اجتماع رؤساء الحكومات قبل التكليف. بينما يقول الرئيس ميشال عون بأنه ملتزم بتحقيق الإصلاحات التي وعد بها في بداية عهده، وبملاحقة الفاسدين، وباجراء التدقيق الجنائي في مصرف لبنان وفي مختلف الوزارات والمجالس والصناديق، لكن يعرف الجميع، وفي طليعتهم الرئيس ميقاتي بأن الهدف الأساسي الذي يخفيه الرئيس عون وراء هذه المطالب الإصلاحية، يتركز على تحضير حكومة قادرة على فتح الباب امام التيار الوطني الحر لخوض الانتخابات النيابية المقبلة، والفوز من جديد بأكثرية النواب المسيحيين. على ان يفتح ذلك الباب امام باسيل لخوض انتخابات رئاسة الجمهورية كالمرشح الأقوى والاوفر حظاً.

 

يخشى المراقبون لعملية تنافس المصالح بين الرئيس عون وكل من رئيس المجلس النيابي ورئيس الحكومة وبين الفريقين المسيحيين الأساسيين التيار الحر والقوات اللبنانية ان يستمر «اللعب في الوقت الضائع» إلى ان يحين موعد الانتخابات النيابية، فيأخذ الاستحقاق الطرفين على حين غرة، فتخيب آمال الفريقين من خلال النتائج الضعيفة التي يحققانها في صناديق الاقتراع.

 

الشعب موجوع ويتضور من الجوع، والكل يشعر بالرعب من الأيام الصعبة والسوداء المقبلة. لذلك فإن المطلوب تعاون الفريق الرئاسي مع الرئيس المكلف من أجل تسريع عملية تأليف الحكومة، ويمكن في حال صفت النوايا تشكيل حكومة إصلاحية خلال عشرة أيام أو أسبوعين كحد أقصى، للانطلاق بعدها بالعمل الاصلاحي، وفتح مباحثات جديدة وهادفة مع صندوق النقد الدولي والدول المانحة، على أمل تدفق الأموال والقروض اللازمة لاطلاق عجلة الاقتصاد ووقف التدهور النقدي ومعه الطيران المجنون لأسعار السلع.

 

تقع مسؤولية مشتركة على رئيس الجمهورية بالدرجة الاولى وعلى الرئيس المكلف بالدرجة الثانية لتسريع عملية تشكيل الحكومة لإنقاذ الوضع، وإذا لم يفعلا فإنه لا بدّ ان يدركا بأن التاريخ لن يرحمهما، كما ان الشعب سيقتص منهما في الانتخابات المقبلة.