IMLebanon

لقاء بعبدا والأمن القومي

 

 

 

من الحدود الغربية لجمهورية مصر العربية،أعاد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الإعتبار لمفاهيم الأمن القومي العربي والمجال الحيوي وأمن دول الجوار، بعد الإنقلاب الخطير في موازين القوى الذي شهدته ليبيا.سقوط العاصمة طرابلس بيد ميليشيات ومرتزقة استُحضرت لتحقيق رأس جسر يهدّد الأمنين الإقليمي والأوروبي، يأتي بعد توقيع حكومة الوفاق الوطني إتفاقات نفطيّة وعسكرية وضعت ليبيا وثروتها النفطية في خدمة مشروع توسّعي، يُعيد ترسيم خرائط النفوذ ويكرّس صعود تركيا كقوّة إقليمية تتشارك مع الجمهورية الإسلامية في إيران مسائل الثأر والسيطرة على خرائط العالم العربي.

 

أخرجت حراجة الموقف المستجدّ وتهديد بوابتها الغربية، مصر، من حالة النأي بالنفس والتفاعل السلبي مع قضايا محيطها العربي والإفريقي التي رسمتها مرحلة ما بعد إتّفاق كامب دايفيد.أعاد إعلان الرئيس السيسي أمام قواته المتحشّدة على الحدود الليبية الإعتبار لارتباط الأمن القومي المصري بأمن واستقرار دول الجوار المباشر وبالأمن القومي العربي،واستعادت مصر المبادرة بجرأة القول إنّ أي تدخّل مباشر من الدولة المصرية باتت تتوافر له الشرعية الدولية،وذلك بعد أن إستنفدت الدبلوماسية الهادئة المرتكزة على معادلة الإستقرار مقابل السيادة بكلّ وسائلها.

 

إنتقال مصر الى الضّفة المقابلة واستعادة المبادرة أتى بعد مسار طويل من المشاركة الفعّالة في دعم كافة المبادرات الإقليمية والدولية التي طُرحت للتسويّة السياسية الشاملة للأزمة الليبية، بدءاً من اجتماعات أطراف النزاع في أبو ظبي وباريس وباليرمو وموسكو ومؤتمر برلين حيث كانت مصر دائما حاضرة ومؤيّدة لجهود السلام. إحترام ودعم قرارات الأمم المتّحدة ومجلس الأمن الدولي، لم تؤدِ بمجملها، ليس في ليبيا وحدها بل في سوريا واليمن ولبنان والعراق،  سوى إلى انتشار المليشيات المسلّحة الإرهابية ونشر أفكار التطرّف وتغذيّة العنف والإرهاب والإعتداء على الحدود والجريمة المنظمة بكافة أبعادها.

 

يتكرّر موقف الرئيس السيسي على الحدود الليبية بعد موقف مماثل أطلقه خلال إجتماع لجامعة الدول العربية على مستوى الرؤساء والملوك في 30 حزيران 2019 في  مكة المكرّمة،عقب الهجمات الحوثية والإيرانية على المرافق النفطيّة في المملكة العربية السعودية والإعتداءات على ناقلات النفط الإماراتية. ومصر التي قال رئيسها يوماً أنّ أمن الخليج العربي من أمنها ودعا الى تفعيل آليات استعادة المبادرة العربية ومعالجة الأزمات عن طريق استعادة الدول لوحدتها وسيادتها، مطالبة اليوم بإضافة ليبيا الى دائرة الأمن الإقليمي .

 

الفراغ الجيوستراتيجي في ليبيا النازفة الذي يستنفر مصر ويقلقها،ينذر بالتحوّل لساحة صراع دولي، يأججه طموح تركيا الصاعدة كقوة ديموغرافية وإقتصادية ومتحكّمة بدور المعبر الرئيسي للغاز الروسي نحو أوروبا، وترسّبات تاريخية خلفّتها معاهدتا سيفر(1920) ولوزان (1923) تضع مستقبل واستقرار الجزر اليونانية والممرات المائية وحقوق التنقيب عن النفط في شرق المتوسط ووسطه أمام احتمالات مفتوحة، ويفاقم ذلك إنكفاء أوروبي وعنجهية أميركية وإستئثار روسي.

 

المشهد الليبي وكلّ المشاهد المماثلة التي تعانيها الدول العربية التي  تفككت أنظمتها ما قبل الربيع العربي كلبنان أو ما بعده، هي ضحية سقوط النظام الإقليمي العربي وعدم القدرة على تحديث وتبلور مفاهيم مرنة لأمن الجوار والأمن الإقتصادي والأمن القومي. الخطر على الأمن القومي، بشقّه التركي، الذي تعيشه جمهورية مصر العربية الآن، لم يبدأ مع توقيع الإتفاقات الإقتصادية والعسكرية بين حكومة الوفاق وتركيا ووصول الدفعة الأولى من المرتزقة الى ليبيا، بل ابتدأ مع العجز عن مواجهة التمدّد الإيراني الى الصومال وعمان واليمن والتحكّم بالممرات الحيويّة منذ العام 1979 قبل الإنتقال الى لبنان والعراق وسوريا واليمن.

 

أمام النهوض المستجد للأمن القومي العربي يتأكد دون أدنى شك إستحالة تحقيق الأمن الوطني بمفهومه المغلق الذي يقتصر على الخصوصيات، دون تبلور رؤية واقعية للأمن الإقليمي المرتكز على حقائق الجغرافيا والإجتماع السياسي. وبهذا يصبح ما نعتقده أمناً وطنياً ليس أكثر من إدارة بدائية لنزاعات عشائرية لا ترقى لمستوى الإجتماع السياسي الحديث، وتصبح الدعوة للقاء جدي في بعبدا لحماية الوحدة الوطنية الحقيقية مسألة تحتاج للكثير من التأهيل.