IMLebanon

عودة الأسد الضالّ إلى الرياض

 

بعد 47 عاماً على إرسال قوات الردع العربية إلى لبنان

 

بين الأسد الأب والأسد الإبن تغيّر الزمن كثيراً وتغيّرت سوريا. لم يعد رئيس النظام السوري يستطيع أن يفرض حضوره على العرب ويتحرّك من موقع القوّة بل صار يستجدي العودة إلى القمة العربية في الرياض بعدما صار رئيساً ضعيفاً، وصار نظامه مهدداً، وبلاده ممزقة ومنهارة ومقسّمة، نصف سكانها تقريباً في الشتات ونصفهم يعيش تحت الحصار.

 

لم تنتهِ الحروب في سوريا بعد. يشبه رئيس النظام السوري بشار الأسد سائق سيارة قادها منذ تسلم مقاليد الحكم بعد وفاة والده حافظ في 10 حزيران 2000. ولكنّه بفعل سوء قيادته ارتكب الكثير من الأخطاء والحوادث، وتحطّمت السيارة وأصيب هو شخصياً بجراح وكسور كثيرة وبأضرار منعته من الحركة والبقاء إلا بمساعدة روسيا وإيران و»حزب الله»، وبات يحتاج معها إلى عمليات جراحية وعلاجات رأى أنّه من الممكن أن يجدها في الرياض. لم ينته الأسد الإبن ونظامه بعد 12 عاماً من الحروب في سوريا. لم يمت ولكنّه يحتاج إلى كثير من العناية لكي يبقى.

 

بين الأسد وصدّام

 

وضع الأسد الإبن اليوم يشبه وضع الرئيس العراقي صدّام حسين بعد ارتكابه خطيئة غزو الكويت في آب 1990. خلال أشهر نظّمت الولايات المتحدة الأميركية خطة طرده من الكويت وبدأت العملية العسكرية في 16 كانون الثاني 1991 وخلال أيام تحرّرت الكويت. لم يعلن الرئيس العراقي الهزيمة بل النصر، لأنّه اعتبر أن الهدف كان إسقاط نظامه. وبما أن نظامه لم يسقط فقد هَزَم أعداءه. منذ ذلك التاريخ دخل العراق تحت ضغط الحصار الدولي واستمرّ حتى سقوط صدام في نيسان 2003. لم تكن حرب 1991 إلا مقدمة للقرار الكبير بالتخلّص من الرئيس الذي حكم العراق بقبضة من حديد ونار، وخاض حربه الأولى ضد النظام الإيراني بعد قيام الجمهورية الإسلامية.

 

تلك الحرب استمرّت من العام 1980 حتى العام 1988 واعتقد صدّام أنه سيحصل بعدها على جوائز ترضية، ولكنه عجز عن ذلك ودخل في خيارات انتحارية أنهته مع نظامه.

 

خلال 12 عاماً من الحروب الداخلية في سوريا كاد نظام بشار الأسد أن ينهار أكثر من مرة. وقف عند حدود السقوط وما حال دون ذلك أنّه لم يكن هناك قرار بإسقاطه بقدر ما كان القرار بإدارة الصراع في سوريا. هذا الصراع الذي أريد من خلاله استنزاف القوى التي انخرطت فيه من المعارضات للنظام بما فيها «داعش» و»النصرة»، ومن معهما من تنظيمات أصولية، وبما فيها النظام نفسه ومن معه من داعمين من إيران إلى «حزب الله» وسائر التنظيمات الشيعية وصولاً إلى التدخّل الروسي الذي بدأ في 30 أيلول 2015.

 

قبل هذا التدخّل كان النظام على وشك السقوط. ذهب قائد فيلق القدس الإيراني اللواء قاسم سليماني موفداً من بلاده إلى موسكو، وطلب دعماً روسياً. لبى الرئيس الروسي بوتين الطلب ولكنه لم يستطع أن يمنع سقوط النظام إلا بعد ثلاثة أعوام من المعارك التي جعلت هذا النظام يعتبر أنه نجا من السقوط بينما لا تزال مناطق كثيرة تقدّر بنحو 40 في المئة من الأراضي السورية خارجة عن سيطرته، ولا يزال يخضع للحصار الدولي وللعقوبات الأميركية.

 

لا عودة إلى عهد مضى

 

بهذه الوضعية الضعيفة استجدى بشار الأسد طريق العودة إلى الرياض. لقد انتهى الزمن الذي كان يستطيع والده أن يفرض فيه نفسه على القمم العربية وعلى لبنان الذي اعتبر أنه مداه الحيوي. وانتهى الزمن الذي كان فيه يستطيع أن يتحكم بالقرارات التي يمكن أن تصدر وبات عليه اليوم أن يدخل إلى القمة على عكازين، أو على حمّالة أو على كرسي متحرك. بين حضور حافظ الأسد مؤتمر الرياض في 16 تشرين الأول 1976 وبين حضور ابنه بشار قمة الرياض في 19 أيار فارق كبير في الزمن وفي القدرات وفي المواقع.

 

قبل 47 عاماً كان الأسد الأب في عزّ قوته. قبل أن يمضي شهر على تسلّم رئيس الجمهورية الياس سركيس مقاليد الحكم في لبنان، أرادت الرياض أن تنظّم مؤتمراً يساعد لبنان على النهوض. كانت المساعدة إقتصادية ومالية ولكنّها في الأساس كانت أمنية. عندما عُرِضت فكرة إرسال قوات ردع عربية إلى لبنان لم تبادر أي دولة عربية إلى عرض مشاركتها الفاعلة. كانت الفكرة سوريالية تقريباً. كان المطلوب إرسال 25 ألف جندي. عرض الأسد أن يكمل العدد الذي تؤمِّنه الدول العربية. شاركت السعودية واليمن والسودان والإمارات بأعداد رمزية ولم يحتج الأسد إلى إرسال قوات جديدة لأن قواته كانت موجودة في لبنان بفعل تدخله الكبير في الحرب اللبنانية.

 

أرسل الأسد جيشه إلى لبنان في ظلّ اتفاق واضح مع الولايات المتحدة الأميركية ورعاية وزير خارجيتها وقتها هنري كيسنجر للعلاقة بين دمشق وتل أبيب، وفي ظلّ خلاف كبير بينه وبين الإتحاد السوفياتي الذي كان يدعم رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات والحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط. وصل الأسد الأب إلى الحكم في سوريا بعد انقلابه على رفاقه في القيادة العسكرية وحزب البعث وصار الحاكم الوحيد لسوريا منذ العام 1970. قبله كانت سوريا ساحة للصراعات الداخلية والإنقلابات العسكرية.

 

منذ العام 1943 لم تعرف أيّ استقرار. من انقلاب حسني الزعيم إلى انقلاب سامي الحناوي، ثم أديب الشيشكلي، ثم إلى الإطاحة بالشيشكلي والوحدة مع مصر إلى الإنقلاب على الوحدة عام 1961، وانقلاب البعث في 8 آذار 1963، وانقلاب البعث على البعث عام 1966، وصولاً إلى انقلاب الأسد عام 1969. منذ ذلك العام بدأ تدخّل الأسد في لبنان. فرض من خلال الحصار على لبنان اتفاقية القاهرة عام 1969، وأمّن انتقال المسلحين الفلسطينيين من الأردن إليه عام 1970، ومنع الجيش اللبناني من إستكمال المعركة ضدّهم في أيار 1973، وبدأ يدير الحرب منذ العام 1975. اتفق أولا مع جنبلاط وعرفات ثم انقلب عليهما عندما اتفق مع الأميركيين. واستخدم الأسد الساحة اللبنانية ليفرض شروطه على الدول العربية الأخرى وليبتزّها أيضاً ومنها المملكة العربية السعودية.

 

من طرد مصر إلى طرد سوريا

 

عندما ذهب الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس في 19 تشرين الثاني 1977 انتظم الأسد مع قادة ليبيا والجزائر والعراق واليمن في «جبهة الصمود والتصدي» المعارضة للتوجّه المصري. في 2 كانون الأول التقى أقطاب هذه الجبهة في ليبيا. وفي 2 شباط 1978 اجتمعوا في الجزائر، وفي 20 أيلول استضافهم الأسد في دمشق، ولم يكن مضى أكثر من عشرين يوماً على الإعلان عن اختفاء رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الإمام موسى الصدر في ليبيا. توجّهت مظاهرات شيعية لبنانية إلى سوريا لمطالبة الأسد بمعرفة مصير الإمام، ولكنها لم تجد إلا الصدّ والردّ والخيبة. حضر الزعيم الليبي معمر القذافي إلى دمشق وغاب الإمام عن بال الأسد.

 

في ظل هذه الإندفاعة انعقدت القمة العربية في بغداد في 2 تشرين الثاني 1978 وقرّرت طرد مصر من جامعة الدول العربية بعدما رفض السادات استقبال الوفد الذي أُرسِل إليه برئاسة رئيس حكومة لبنان الدكتور سليم الحص حاملاً عرضاً بالمساعدة بخمسة مليارات دولار. انتقل مقرّ الجامعة إلى تونس ولم يعد إلى القاهرة إلا عام 1990. قرار طرد سوريا من جامعة الدول العربية لا يشبه قرار طرد مصر وعودتها إليها لا تشبه العودة المصرية. عادت مصر بعد حصار صدّام حسين وبعد 12 عاماً على صدور قرار طردها من بغداد وانعقدت فيها القمة في 15 آب من ذلك العام.

 

عودة الأسد

 

في 12 تشرين الثاني 2011 قرّر وزراء الخارجية العرب في اجتماع طارئ عقدوه في القاهرة تعليق عضوية سورية في الجامعة اعتباراً من السادس عشر من الشهر نفسه لحين التزام الحكومة السورية بتنفيذ بنود المبادرة العربية. كما أعلنوا فرض عقوبات اقتصادية وسياسية ضد دمشق، وحثوا الجيش السوري على عدم استخدام العنف ضد المتظاهرين المناهضين للنظام.

 

القرار تلاه رئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني في مؤتمر صحافي عقده بعد الاجتماع مؤكداً سريانه إلى حين قيام النظام السوري بالتنفيذ الكامل لتعهداته التي وافق عليها بموجب خطة العمل العربية لحل الازمة السورية. وطالب القرار الدول العربية بسحب سفرائها من دمشق، لكنه اعتبر ذلك قراراً سيادياً لكل دولة، كما اتفق الوزراء على «توقيع عقوبات اقتصادية وسياسية» على الحكومة السورية.

 

قرار عودة سوريا إلى الجامعة الذي اتخذ في 7 أيار الحالي يرتكز على مبدأ الحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها بينما لا تزال مقسّمة مناطق نفوذ وصراعات. من منطقة إدلب في الشمال المحاذي لتركيا حيث تسيطر جماعات أصولية إلى منطقة نفوذ الأكراد في الشمال الشرقي إلى منطقة نفوذ أميركي عند الحدود مع الأردن ومنطقة نفوذ تركية عند الحدود الشمالية، بينما هناك مناطق حصلت فيها تسويات برعاية روسية. يعود النظام السوري إلى الرياض بينما تتقاسم السيطرة على الأرض فيه وحدات عسكرية من الجيش الروسي إلى «حزب الله» وإيران والتنظيمات الشيعية الداعمة له، وفي ظل تفاهمات جديدة تحصل وتتحدّث عن رسم خريطة سياسية جديدة في سوريا.

 

هل يتنازل النظام عن ولائه لإيران ويتخلّى عن الدعم الروسي مقابل تعهّدات عربية جديدة، وسعودية تحديداً بمساعدته على النهوض؟ وهل يحتاج هذا النظام اليوم إلى قوات ردع عربية تحلّ محل القوات الإيرانية والروسية وتشكل مدخلاً لإعادة تنظيم سوريا عبر اتفاق جديد يشبه ربما «اتفاق الطائف» يُخرج سوريا من حروبها ويشرك المعارضة في السلطة؟ هل هناك جيوش عربية يمكن أن تأتي إلى دمشق؟ كانت هذه النظرية مطروحة وتقوم على أساس قوة مصرية وسعودية ولكن معظم الدول العربية اليوم منشغلة أيضا بأوضاعها الداخلية غير المستقرّة أو بالصراعات في المنطقة.

 

لا يعود الأسد إلى الرياض من موقع القوة. هي عودة الأسد الضال التي تحتاج إلى اعترافات وندامة وتوبة حتى تلقى الغفران. وهي عودة الرياض إلى موقع القمة والقرار بين الدول العربية.