IMLebanon

الأسطورة التي لا تَكتَمِل إلا بِمَوت البَطل

د. سامر حنقير

 

 

مَن قال انّ القادة الحقيقيين لا يدفعون ثمنَ أحلامِ شُعوبهم؟! مَن قال انّ الشُعوبَ لا تُحمّل قادتَها المُندَفعين في زَمَنِ الخطر وَجَع التاريخ وعذابات القضيّة وخَطايا البُندقيّة؟!

 

لم يُقتَل الرئيس اللبناني المُنتَخَب بشير الجميّل في اليوم الذي يقع فيه عيد الصليب في 14 أيلول 1982 لأنه كان قائد مجموعة حزبيّة مُقاتلة أو زعيم جماعة مِن الجماعات التي تَتَكوّن منها “الشعوب اللبنانية” المُتَناحرة. فَغَيرهُ مِن قادة الميليشيات الذين انغمسوا بالحرب عاشوا وَحكَموا وَتَحكّموا بمؤسسات الدولة وما زالوا يَتَحكّمون بها حتى اليوم إلى أن تَفكّكت.

 

ولم يُهدَر دم بشير الجميّل لأنه “عميل وخائن” كما يزعم مَن يتباهى بقتله وتدمير الحَيّ المحيط بموقع الاغتيال في الأشرفيّة. وهؤلاء المُتَفاخرون بأعمال التصفية الدمويّة ينتمون إلى فئة العقائديين الذين يَدّعون التحرّر الفكري والعلمانيّة فيما سُلوكيّاتُهُم هي أقرب بحقيقتها الى سُلوكيّات التَكفيريّين الإلغائيّين.

 

ليست الصورة التي تَكَوّنَت في أذهان اللبنانيين عن بشير (وهي تختلف بين فئة أحبّته وأخرى أبغَضَتهُ) هي التي اغتيلَت. بَل الذي اغتيل هي الصورة التي رسمَها بشير لنفسه والتي صمّمَ أن يكون عليها، صورةَ الرجُل القادر على أن يتحوّل بفِعل الطاقة الهائلة على التغيير الكامنَةِ فيه من شابٍّ أجبَرتهُ الحرب على القتال في الشارع إلى رَجُل دولة، ويُحوّل مَن كانَ معه وبعضَ مَن كان ضدّه الى أُناسٍ تَوّاقين وساعينَ لبناء عهدٍ جديد. هذه الصورة التي ظلّت مَخفيّةً لسنوات نتيجة تورّط اللبنانيين في مُستَنقع الحرب تَظَهّرت للرأي العام بشكلٍ أوضح منذ اللحظة التي جلس فيها بشير في المجلس الحربيّ في 23 آب 1982، إلى يمينه المُفكّر اللبناني شارل مالك وإلى يساره الأمير فيصل أرسلان مُنتَظراً إعلان انتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية. هذه الصورة التي كانت في طَور الاكتمال، والتي عبّر عنها خير تعبير في خطابه الشهير في مبنى تلفزيون لبنان بعد أيامٍ من انتخابه طارحاً رؤيته العصريّة لإدارة الدولة، هي التي كانت تُخيفُ قاتليه، وهي التي تَسبَّبَت باغتياله!

 

دفع بشير الجميّل ثَمَنَ تَفَوّقِهِ في السباق مع الوقت الذي وصل الى حُدود إزعاج راسِمي الصُوَر النَمَطيّة وَواضعي المُعادلات السياسية الإقليميّة الكبيرة التي فُرِضَت عنوَةً على القوى والشعوب الصغيرة لكي تلتزم بها تحت طائلة المسؤوليّة!

 

حركة بشير كانت سريعة جداً على مساحة لبنان رغم صعوبة بناء الثقة من جديد بين اللبنانيين بقيادة شخصٍ ارتبَط اسمُهُ بالحرب. وقد نَجَح في إحداثِ نوعٍ من الاختراق الأوّلي الذي بدأ التَجاوُب معه مِن الجُذور. إذ في الوقت الذي عمدت فيه قيادات مُناوئة لبشير، وتحتَ مِظَلّة إقليميّة، إلى تجميع قِواها ضده فَورَ انتخابه تمهيداً لإسقاطِه، كان لافتاً أن نرى بعض أهالي منطقة مارون الراس الشيعية الذين ضاقُوا ذرعاً بغياب الدولة عن الجنوب وتجاوُزات التنظيمات غير اللبنانية التي استَجلَبت الاحتلالات والحروب يرفعون اليافطات المُرحّبة بانتخاب بشير، وأن يقصد مئاتٌ مِن الأهالي والمشايخ الدروز الرئيس الشابّ في بكفيّا، وأن تَزُورهُ وُفود شعبيّة من البَسطة وعائشة بكّار وَتَحملهُ على الأكتاف، وأن يخرج الزعيم السنّي صائب سلام الذي رفض في البداية انتخاب بشير على اعتبار أنه “رئيس ميليشيا” من لقائه الأول معه بكثيرٍ من الارتياح والأمل مُعتبراً أنّه اكتشفَ في بشير ما لم يَكُن يعرفه عنه. وكَم مِن المفاهيم الخاطئة كوّنَها اللبنانيون عن بعضهم البعض! وأما الشارع المسيحي، ورغم أنّه متنوّع بطبيعته ولا يُمسِكُهُ زعيم واحد، فقد انفجَر قسمٌ كبير منه فَرحاً بالرئيس الشابّ واندفَعَ لِمُلاقاتِهِ بالزغاريد والدموع أينما حلّ.

 

لحظةَ دوّى الانفجار الكبير الذي زلزلَ الأشرفيّة وأنهى حياة بشير الجميّل وعشرات الأشخاص الآخَرين، إنكَشَفَ بعضُ ما كان مَستُوراً، إذ التقَت المصالح المُتَضاربة على جُثة بشير المُتَناثرة!

 

ذَنبُ بشير أنه سَلَكَ مَساراً تَصاعُديّاً كان كفيلاً، لو استمرّ، بأن ينقله مِن وضعيّة “زعيم الجماعة” إلى وضعيّة “رئيس الدولة”. وبما أنّ هذا المَسار التصاعديّ “المُزعج” و”غَير المَضبُوط” لم يَكُن مسمُوحاً به، كان ممنوعاً أن تبقى حوله الخطوط الحمراء التي لو بَقِيَت لكانت حفظت حياة بشير، كما حُفِظَت حياة غيره مِن الزعماء ورؤساء الأنظمة السياسية في المنطقة فاستمروا في مواقعهم بعدما انضبَطوا في أدوارهم!

 

الذينَ أبغَضُوا بشير وحلّلُوا قَتلَهُ في ذلك الحين إنقسموا في ما بعد. إذ اعترفَ قسمٌ منهم في السرّ وأحياناً في العَلَن أنّ منطق التخوين كان ظُلماً وأنّ بشير، وَلَو اختلفوا معه في كثير مِن المسائل الجوهريّة، كان رجُلاً واضحاً ومقداماً وَعبّر بوضوح عن وجدان الفئة التي أحبّته مِن الشعب اللبناني. فيما استمرّ القسم الآخَر بِتَمجيد أعمال القتل والاغتيال والكراهية والتخوين ورفض الاعتراف بالتعدّدية. وأما الذين أحبّوه فما زالوا يَبكُونَه كُلّما حلّ عيد الصليب وكأنّ الجُرح لم يَندمِل حتى اليوم، وهُم لا يَرثُونَهُ فقط كقائدٍ جَسّدَ مُعاناةَ شعبهم عبر الأزمِنَة، بل هُم يشعرون أنهم خسروا باغتياله إبناً لهم انتُزِعَ غَدراً من قُلوبهم!

 

حملَ بشير تضحيات الحرب وخَطاياها على حدٍّ سَواء، وَذَهبَ كعادِتِهِ في كل شيء حتى النهاية! ولعلّ مأساتَنا نحن الغارقين اليوم بالفَراغ والخوف والخُمُول والمُعَرَّضين لكل أشكال الانتهازيّة والضُّمُور أننا لم نَعُد على استعداد لأن نذهَبَ حتى النهاية في أيّ شَيء!

 

بابتِسامَتِهِ التي حَمَلَت وَعداً باستعادة الجمهوريّة الضائعة عانَقَ بشير الجميّل صليبَهُ يومَ ارتَفَعَ الصليب، وَرحلَ باكراً، بل باكراً جداً. وَمُنذُ ذلك الثلثاء الحزين صارت الحقيقة التي عاشَها مَن أحبّهُ لمدّةِ واحدٍ وعشرينَ يوماً حُلماً، بَل روايةً هي أشبَهُ بالأسطورةِ التي لا تَكتَمِل إلا بِمَوت البَطل!

 

تسعةٌ وثلاثونَ عامًا كَيَومِ أمس الذي عَبَر !

 

عيد الصليب التاسع والثلاثون بعد بشير.