IMLebanon

بشير الجميل… رئيساً  

 

 

كانت الجمهورية ضائعة فوُجدت… 

في 6 آب 1980 التقى في دير القطارة أربعة أشخاص كلفهم الشيخ بشير الجميل قائد “القوات اللبنانية” وضع “مشروع استراتيجية عمل لمرحلة ما بعد 7 تموز” تاريخ توحيد البندقية في المناطق الشرقية. هناك في ذلك الدير الذي كان مقراً لقيادة قطاع الشمال في “القوات” استضاف قائد القطاع سمير جعجع كلاّ من أنطوان نجم، رئيس لجنة الدراسات الإستراتيجية، والضابط في الجيش اللبناني ميشال عون ورئيس الشعبة الثالثة في القوات الدكتور فؤاد أبو ناضر على مدى نهار كامل تخلله نقاش وغداء. بعد ذلك توالت الإجتماعات في أكثر من مكان وبمشاركة أشخاص آخرين حتى تُوّج العمل بخلوة دير سيدة البير في بقنايا جل الديب في لقاء 27 أيلول 1980 التي تقرر فيها اعتماد “الإستراتيجية” التي توصل المقاومة اللبنانية ممثلة بالشيخ بشير الجميل إلى رئاسة الجمهورية في أيلول 1982. بعد عامين حققت هذه الإستراتيجية هدفها وانتخب بشير الجميل رئيساً للجمهورية اللبنانية في 23 آب. كانت الجمهورية ضائعة وتائهة فوُجدت.

في كتابه “أسرار حرب لبنان” يروي ألان مينارغ في الفصل الأول الذي وضعه تحت عنوان “ستة عشر رجلاً لتنفيذ انقلاب” قصة ذلك اللقاء في دير سيدة البير: “السبت في 27 أيلول 1980. ما إن يجتاز المرء بوابة باحة “دير سيدة البير”، حتى تجتاحه هبّات رائحة أشجار الصنوبر وصرير الجُدْجُد عبر نافذة السيارة المفتوحة. كانت الساعة لم تتجاوز الثامنة والنصف صباحاً، والطقس حاراً ورطباً، منذ الصباح الباكر: 31 درجة مئوية، بالرغم من الجو الغائم. كان بشير وراء مقود سيارته “الهوندا”، يقودها مسرعاً على ممر الباحة، ويجلس بقربه حارسه الخاص. كان قد دعا أنصاره الى اجتماع سرّي لتحديد الاستراتيجية الواجب اتباعها بعدما “توحدت الميليشيات المسيحية” قبيل شهرين”.

 

“في اليوم الخامس من الحرب الإيرانية ـ العراقية، دارت معارك عنيفة على طول شط العرب. وكان القصف المكثف قد طاول مدينتي عبدان وخورمشهر الإيرانيتين… وكان راديو السيارة قد انطفأ بمجرد أن قطع بشير التيار بالمفتاح. صعد الدرجات المعدودة التي تؤدي الى مدخل المبنى الأبيض المشاد بالباطون. في القاعة الكبرى للطابق الأرضي، كان خمسة عشر رجلاً في انتظاره. وكان قد اختار دير راهبات الصليب في سيدة البير المشرفة على جل الديب، لأسباب سرّية واضحة”.

 

لم تكن تلك المرة الأولى التي يحضر فيها بشير إلى ذلك الدير. في 21 و22 و23 كانون الثاني 1977 شارك في خلوة “الجبهة اللبنانية” التي صدرت عنها مقررات تتعلق بمصير لبنان وبنظرتها إلى تكوين الدولة والنظام. ولكن هذه المرة كان بشير يعقد خلوة لنواة جبهته الخاصة قبل أن يصير رسمياً بعد عامين أيضا مرشح الجبهة اللبنانية لرئاسة الجمهورية.

 

كان اللقاء حول طاولة على شكل U. انتحى الشيخ بشير ليترك لرئيس السن الوقور وزير خارجية لبنان الأسبق وواضع شرعة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة الدكتور شارل مالك ترؤس الجلسة التي ضمت كلاّ من: زاهي البستاني (أنور) وكان لا يزال مفوضاً في المديرية العامة للأمن العام، الدكتور سليم الجاهل استاذ القانون في جامعة القديس يوسف للآباء اليسوعيين وقد أعطي أيضا لقب (ميشال سان أندريه)، أنطوان نجم استاذ الفلسفة وأمين العقيدة سابقاً في حزب الكتائب وقد أعطي لقب (نبتون) والليوتنانت كولونيل الآتي من المؤسسة العسكرية ميشال عون وقد أعطي لقب (جبرايل). ومن رفاق بشير المحاربين كان: فادي افرام (هورس) نائب رئيس الأركان، فؤاد أبو ناضر رئيس الشعبة الثالثة، أسعد سعيد (هابي)، إيلي حبيقة (H.K) رئيس جهاز الأمن، إيلي الزايك، سمير جعجع (الحكيم) وبطرس خوند. بالإضافة إلى جوزف أبو خليل (العم) والدكتور جورج فريحة الأستاذ في الجامعة الأميركية ومؤسس الهيئات الشعبية وجان ناضر مسؤول كتائب الأشرفية الذي استشهد لاحقاً مع الشيخ بشير في 14 ايلول 1982.

 

في تلك المرحلة كانت حظوظ فوز الشيخ بشير بالرئاسة صفراً تقريباً ولم يكن من الواضح كم يمكن أن تبلغ بعد عامين ولكن كان قد بدأ العمل جدياً لجعلها مئة في المئة. كانت من دون شك مهمة شاقة ومحفوفة بالأخطار وغير مضمونة النتائج ولكنها كانت بمثابة بداية خريطة الطريق.

 

كان من الطبيعي لبشير أن يضع مثل هذه الإستراتيجية. فحربه دفاعاً عن لبنان لم تكن عبثية بل من أجل الوصول إلى عملية إنقاذ للبلد والجمهورية. منذ بدأ السير على هذا الدرب كان عليه أن يواجه محطات فيها مخاطر وخسائر وانتصارات.

 

في العام 1970 عندما خطفه مسلحون فلسطينيون في مخيم تل الزعتر على الحدود مع بلدة الدكوانة كانت حياته في خطر. تدخل كمال جنبلاط من أجل أن يتم إنقاذه. في ربيع العام 1976 بعد انهيار العلاقات بين جنبلاط وزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وبين النظام السوري بقيادة حافظ الأسد التقى بشير جنبلاط. ولكن اللقاء الذي أتى في ظروف غير مدروسة وغير مناسبة لم يؤتِ ثماره إذ أن قرار النظام السوري بالتدخل في لبنان كان قد أصبح أمراً واقعاً.

 

في صيف 1978 أوقفه حاجز الجيش السوري في ساحة ساسين في الأشرفية. بعدما تم إطلاق سراحه كان قرار تحرير المناطق الشرقية من هذا الجيش قد اتخذ وبدأت المواجهة بالحرب التي عرفت بـ “حرب المئة يوم”. هذه الحرب التي انتهت بانسحاب الجيش السوري من الأشرفية والجسور صنعت من بشير قائداً عسكرياً وسياسياً. وقد استكمل مرحلة الصعود هذه بتوحيد البندقية المسيحية في 7 تموز 1980 التي أصبح بعدها قائداً عسكرياً وحيداً في المنطقة الشرقية يسعى ليكون القائد السياسي الوحيد الذاهب نحو أن يكون رئيساً للجمهورية.

 

حرب زحلة في نيسان 1981 قربته أكثر نحو هدفه. أحكم جيش النظام السوري الحصار حول المدينة المسيحية في البقاع ولكنه فتح طرق بشير الجميل نحو الولايات المتحدة الأميركية. بعدما كان منبوذاً في واشنطن أتى موفد الرئيس الأميركي رونالد ريغن السفير فيليب حبيب إلى لبنان لمنع انفجار حرب بين سوريا وإسرائيل من جهة، ولدعم وصول بشير الجميل إلى رئاسة الجمهورية، بعدما تحقق الهدف الإستراتيجي وبات منذ بدء الإجتياح الإسرائيلي للبنان المرشح الوحيد. ولكن دون ذلك كان يجب التحضير للفوز بهذه الإنتخابات.

 

كان على بشير أن يجتاز عتبة الترشيح الأولى داخل الجبهة اللبنانية. تولى رئيس الرهبانية اللبنانية المارونية الأباتي بولس نعمان هذه المهمة وأعلن ترشيحه في أحد اجتماعات الجبهة علماً أن الرئيس كميل شمعون كان يرغب بذلك. هذا الأمر رجح كفة بشير فتبنت الجبهة ترشيحه.

 

كان عليه أيضاً أن يبادر في اتجاهات أخرى. كانت العلاقة مع الرئيس الياس سركيس قد انتظمت منذ العام 1980 وتولى عملية التنسيق فيها مدير المخابرات وقتها العقيد جوني عبدو الذي أصبح أحد أبرز داعمي وصول بشير إلى قصر بعبدا. حاول منذ العام 1980 أن ينفتح على وليد جنبلاط. حصلت لقاءات عديدة بين ممثلين عنه وممثلين عن جنبلاط ولكنها لم تصل إلى نتيجة بسبب خوف جنبلاط من النظام السوري ورد فعله في حال تمّ الكشف عن هذه الإتصالات كما أفصح لاحقاً أنطوان نجم أحد ممثلي بشير وسمير فرنجية أحد ممثلي جنبلاط وكان كلاهما من الموارنة. عبر هيئة الإنقاذ التي شكلها الرئيس الياس سركيس بعد بدء الإجتياح الإسرائيلي التقى جنبلاط مباشرة كما التقى رئيس “حركة أمل” نبيه بري. ولكن لم يحصل على تأييدهما للرئاسة. ذهب في اتجاه تأكيد العلاقة مع الأمير مجيد أرسلان ومع رئيس مجلس النواب كامل الأسعد وحاول أن ينفتح على القوى السنية التي عارضت بشدة وصوله إلى رئاسة الجمهورية وقاطعت جلسة انتخابه حتى بعد زيارته إلى المملكة العربية السعودية. ولكن هذا الأمر لم يمنع لقاءه مع الرئيس صائب سلام في 11 أيلول 1982 بعد انتخابه واتفاقه معه على التعاون بعدما تبدلت نظرة الرئيس سلام إليه.

 

في 23 آب 1982 تأمن النصاب في جلسة مجلس النواب التي انعقدت في المدرسة الحربية في الفياضية وترأسها الرئيس كامل الأسعد وشارك فيها معظم النواب الشيعة. في اليوم التالي للإنتخاب كانت الدولة قد انتظمت تلقائياً. ظل الرئيس القوي وصيته سبقاه إلى قصر بعبدا. كانت الجمهورية مفقودة. بعد انتخابه صارت موجودة. كان لديه مشروع كبير للإنقاذ ومعه خلال الأيام الـ 21 التي عاش فيها رئيساً منتخباً، شعر اللبنانيون بأكثريتهم أنهم جزء من هذا المشروع وشركاء في تحقيق حلم قيام الجمهورية التي تنهي الحرب وتؤسس لأيام جديدة، يستعيد معها لبنان حلم الدولة التي كانت والتي يجب أن تكون. الدولة التي لا تهتز عند كل مشكلة صغيرة ويتهدد كيانها ومصيرها.

 

قبل استشهاده ذهب بشير الجميل إلى قراءة ملف الإدارات في هذه الدولة في سلسلة لقاءات مع المسؤولين عنها. اطلع منهم على وضع الدولة التعيس بعد سبعة أعوام من الحروب. استمع إليهم وكان واضحاً وحاسماً معهم. كانوا يريدون رئيساً من طراز بشير الجميل وهو كان قادراً على أن يؤمن لهم الحماية من أجل أن تنجح مهمة إحياء الجمهورية. في تلك اللقاءات كان الدكتور جورج فريحة حاضراً وقد سجل المحاضر ونشرها في كتابه “مع بشير ـ ذكريات ومذكرات”.

 

في اللقاء مع المدير العام لرئاسة الجمهورية كارلوس خوري قال له بشير: “هناك آمال كبيرة معقودة علينا لا يجوز أن نخيِّبها” واستعرض معه وضع القصرالجمهوري الذي وصفه بأنه “فلتان”.

 

في الإجتماع مع اللواء أحمد الحاج المدير العام لقوى الأمن الداخلي قال حازماً بلهجة الرئيس الواثق من المهمة التي جاء من أجلها: “ليفهم الجميع أن الفلتان قد انتهى والدولة ستعود دولة”.

 

مع العماد فكتور خوري قائد الجيش كان عرض لأوضاع المؤسسة العسكرية وحاجاتها وكان طلب سريع: “أريد قوة تدخل سريع”. كان بشير يريد جيشاً قوياً يلغي كل الجيوش الصغيرة الأخرى.

 

مع المدير العام لوزارة الإعلام رضوان مولوي سأل بشير: “ما هي الإصلاحات التي تنتظرونها مني؟”. كان يعطي الأمل بأنه سيكون كما ينتظر اللبنانيون.

 

“طبقوا القانون حتى على الرئيس”، قال لرئيس التفتيش المركزي هشام الشعار. عندما يسمع موظف مسؤول بهذه الرتبة وبهذه المهمة رئيس الجمهورية يطلب منه ذلك هل يمكنه أن يتأخر عن المحاسبة وعن تطبيق القانون؟

 

للمدير العام لوزارة الخارجية كسروان لبكي قال: “لا أغطي أحداً. لا أحمي أحداً”.

 

للأمير فاروق أبي اللمع المدير العام للأمن العام قال: “كنا في السفينة نفسها. سأساعدك حتماً”.

 

أما مع رئيس مجلس الخدمة المدنية الدكتور جورج صليبي فلم يكن هناك مجال للمساومة على الخدمة. قال له بشير: “طبق خطابي وأنا أحميك”.

 

لم يسأل بشير الموظفين الكبار عن هوياتهم الطائفية ولا عن ولاءاتهم السياسية. كان يريد أن يكون الولاء للدولة أولاً وكان مؤمناً أن شعباً مؤمناً بقدراته وبقدرات رئيسه قادر على أن يصنع دولة وجمهورية قوية يكون فيها رئيس الجمهورية نفسه تحت القانون.

 

في 14 أيلول 1982 اغتيل بشير وتأجل معه حلم قيام الجمهورية القوية. لم تكن تلك المرة الأولى التي يتعرض فيها للإغتيال. في 23 شباط 1980 استشهدت ابنته مايا في التفجير الذي كان يستهدفه في طلعة العكاوي – الأشرفية. ثمة محاولة قيل أنها كانت ستنفذ ضده في ساحة ساسين وأن المكلفين بها وضعوا العبوة الناسفة لكنهم فشلوا في تفجيرها بسبب عطل تقني. هناك أيضاً من يشير إلى عملية كانت ستنفذ في كنيسة كان سيزورها وتم اكتشافها قبل التنفيذ وربما لم يتم الإعلان عنها.

 

على رغم مرور 37 عاماً على انتخاب بشير رئيساً للجمهورية وعلى اغتياله لا يزال حلم الجمهورية التي كانت ستكون معه جميلاً وواقعياً ولا يزال هو الرمز الذي يحاول البعض أن يتشبه به حتى لو كان يتحالف مع من تبنى اغتياله. ولا يزال اللبنانيون ينتظرون جمهورية قوية كالتي كان سيحققها بشير.