عندما ظهرت اشكالية ردم الحوض الرابع في مرفأ بيروت، كان من الطبيعي ان يتمحور النقاش حولها لجهة قانونية الخطوة والجدوى الاقتصادية منها، لكن بعد التطورات التي شهدها هذا الملف، صار من غير المسموح الاستمرار في النقاش الاقتصادي، وبات الموضوع أعمق وأخطر، ويحتاج نقاشا من نوع آخر، من دون أن ينفي ذلك الحاجة لاحقا الى دراسات اقتصادية للخروج بقرار مفيد.
في بداية ما عُرف لاحقاً بأزمة الحوض الرابع، امتلأت مساحات النقاشات وتركزّت على ثلاث اسئلة اساسية هي :
اولا- هل من جدوى اقتصادية لردم الحوض؟
ثانيا – هل من مسوغ قانوني يسمح بهذا الردم؟
ثالثا – هل تمت مناقصة الردم وفق القانون؟
في خضم النقاشات التي تمحورت حول هذه الاسئلة، تبين ان الاجابات الحاسمة على بعضها غير متوفرة، وقد تكون أقرب الى وجهات نظر كل فريق. اذ في موضوع الجدوى الاقتصادية تشعب النقاش في شأن المنافع التي قد يحصل عليها الاقتصاد جراء توسيع محطة الحاويات لاستيعاب الحركة الاضافية في نقل الحاويات، مقابل الخسائر التي قد يتعرض لها الاقتصاد جراء حرمان مرفأ بيروت من قدراته على استقبال السفن التجارية الضخمة التي تنقل البضائع بلا حاويات. وقدّم كل طرف اكثر من رأي، لكن الحقيقة أن أي فريق لم يقدّم دراسة علمية كافية لتحديد المنافع والاضرار.
ويحتاج الامر الى شركة عالمية متخصصة ومحايدة تحسم هذا الموضوع. خصوصا ان الادعاء بأن في الامكان اعطاء قسم من الحوض الرابع الى السفن الكبيرة بلا حاويات غير منطقي في التنفيذ. اذ تنصّ التعليمات الدولية المتعلقة بمحطة الحاويات انه يمنع على سائقي الشاحنات النزول من شاحناتهم، لأن مجرد السير في ارض المحطة ممنوع.
فكيف يمكن تأمين عمل السفن التجارية في هذا الوضع؟ كذلك تبين ان موضوع رسو البوارج الحربية الضخمة التي تحتاج الى عمق 10 أو 11 مترا سيصبح متعذرا، وقد يمسّ ذلك تنفيذ مندرجات القرار 1701 لتسهيل عمل القوات البحرية الدولية المولجة تنفيذ هذا القرار.
كذلك يتضح من النقاشات حول جدوى الردم لتوسيع محطة الحاويات، ان هناك تشكيكاً في الحاجة الفعلية الى هذا التوسيع، بصرف النظر عن الاضرار التي قد يخلّفها ردم الحوض. اذ تشير ارقام الحاويات الى نمو متواضع لا يعكس ما يحاول ان يروّج له المدافعون عن حتمية التوسيع، ولو على حساب ردم حوض قائم، والوحيد القادر على استقبال السفن الضخمة.
وتُبيّن الأرقام ان محطة الحاويات بدأت في العام 2007 باستقبال حوالي 950 الف حاوية سنويا، ووصلت في العام 2013 الى مليون و117 الف حاوية. بما يعني ان معدل نسبة الزيادة السنوية لا يتجاوز الـ1.7%، وهي نسبة متواضعة جدا، ولا يمكن البناء عليها لتنفيذ خطط التوسُّع بأي ثمن.
في موضوع قانونية الردم، هناك نقاشات لم تصل الى الحسم أيضا. وهي تنطلق كما صار معروفا من فكرة وجود المرسوم الجمهوري الرقم 9040، وامكانية تجاوزه بقرار من رئيس الحكومة منفرداً. في كل الاحوال هذا الموضوع ايضا قد يحتاج الى تفاهم سياسي-وطني اكثر مما يحتاج الى حسم قانوني، لأنه يتعلق بآلية احترام مراسيم تصدر عن رئيس الجمهورية، وجواز تخطيها في ظل عدم وجود رئيس.
اما في مسألة التلزيم، فهي تبدو موضع شبهة بصرف النظر عن أرقام التلزيم، وما اذا كانت عادلة او مُبالغ فيها لتأمين منافع تندرج في اطار الفساد والهدر. وبمجرد ان يكون التلزيم قد تمّ بالتراضي، يصبح الموضوع موضع تساؤل ومساءلة.
لكن في المحصلة، كل هذه النقاشات والاعتبارات الاقتصادية والقانونية صارت وراءنا، بعدما تحوّل الملف الى قضية وطنية تحتاج نقاشاً في العمق يتمحور حول دور المكونات اللبنانية في السلطة واتخاذ القرارات، واحترام الخصوصيات والمقامات.
ولا شك في ان النموذج الذي شهدناه في موضوع مطمر الناعمة، واذا ما قارناه بنموذج الحوض الرابع نخرج بنتيجة مقلقة مفادها ان «الدولة» لم تعد تتعاطى مع مكوناتها على قدم المساواة.
في ملف مطمر الناعمة، اضطرت الحكومة أن «تحجّ» الى كليمنصو للوقوف على خاطر رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، للسماح لها بتمديد العمل في المطمر لثلاثة اشهر اضافية.
ولو لم يوافق وليد بيك على التمديد، ما كان ليتم، رغم ان الحكومة عن بكرة ابيها كانت مُقتنعة بالحاجة الملحة الى التمديد. في موضوع الحوض الرابع، دخلت بكركي على الخط بما لها من ثقل ديني ووطني، وجمعت الاحزاب المسيحية كلها والتي يُفترض انها تمثل غالبية المسيحيين حول طلب وقف تنفيذ ردم الحوض لمناقشة الملف بهدوء. ومع ذلك، لم يوافق رئيس الحكومة تمام سلام على مجرد فتح باب مناقشة هذا الملف في مجلس الوزراء، واُعطيت التوجيهات باستكمال أعمال الردم!
بين المشهدين، مشهد مطمر الناعمة ومشهد الحوض الرابع، هناك اكثر من خلل يحتاج الى معالجة. ومن الطبيعي ان النقاشات اليوم لا ينبغي أن تُركّز على جدوى او قانونية ردم الحوض الرابع، بل صار من الضروري مناقشة ماذا يجري على مستوى اتخاذ القرارات في هذه الدولة، مع التشديد على الخروج بنتائج واضحة لا تسمح بتكرار مثل هذه الخروقات غير المقبولة في المستقبل.
لأن دور المكونات الاساسية في البلد، وعلى رأسها المكوّن المسيحي، هي اكبر من خوض معركة من اجل حوض، والأدهى أن يتبيّن أن «الحوض» أقوى من قرارات ورغبات هذا المكوّن.