IMLebanon

بيروت رئة دمشق: إنقلاب المقاييس

 

ليل الأربعاء 17 حزيران الحالي توفي في بيروت غيث جديد ابن المرحوم غسّان جديد عميد الدفاع السابق في الحزب “السوري القومي الإجتماعي”. وقد تمّ دفنه في مدافن الباشورة في اليوم التالي وتقبلت العائلة التعازي على الهاتف، بسبب تدابير التباعد الإجتماعي خوفاً من عدوى فيروس كورونا.

 

في 8 أيار 2018 كانت توفيت والدة غيث سهيلة جديد وقد تم دفنها في بلدتها، دوير بعبده، في قضاء جبلة في سوريا في 10 أيار وتم تقبُّل التعازي في نادي خريجي الجامعة الأميركية في بيروت.

 

إنّها قصة عائلة جديد التي ربما تختصر صورة تداخل المصائر بين لبنان وسوريا وبين اللبنانيين والسوريين. في 19 شباط 1957 اهتزّ لبنان لخبر اغتيال العقيد غسان جديد في بيروت. كلّفت الإستخبارات السورية بقيادة عبد الحميد السرّاج أحد عملائها عزّت شعث الفلسطيني السوري بالمهمّة. تخفّى بمهنة بائع متجول وعندما ظهر له جديد أطلق عليه النار وقتله. بعد ذلك لجأ القاتل إلى إحدى البنايات وتمكّن عزيز ديوب، أحد أعضاء الحزب “السوري القومي الإجتماعي”، من قتله ليفوِّت على الأمن اللبناني فرصة القبض عليه واستجوابه.

 

مؤامرات واغتيالات

 

كان غسان جديد ضابطًا في الجيش السوري منتمياً إلى الحزب “السوري القومي الإجتماعي” واتُّهم بالمشاركة في عملية اغتيال العقيد عدنان المالكي في 22 نيسان 1955، التي نفّذها أحد أعضاء الحزب يونس عبد الرحيم الذي انتحر فور قيامه بالمهمّة، لتتمّ بعدها ملاحقة الحزب في سوريا وتصفية وجوده وقد كان بقيادة جورج عبد المسيح، وتمّ على أثر ذلك اعتقال الكثير من القوميين ومن بينهم زوجة مؤسّس الحزب أنطون سعادة جولييت المير.

 

تمكّن غسان جديد من الهرب إلى بيروت. كانت العاصمة اللبنانية تشكّل في مرحلة ما قبل السبعينات واحةً للجوء المعارضين السوريين أو الناجين من عمليات الإنقلاب المتتالية التي كانت تحصل في سوريا. في العام 1956 إتُّهم جديد بالمشاركة في محاولة انقلاب على النظام في سوريا خطّط لها الحزب “السوري القومي الإجتماعي”، بمساعدة النظام الملكي في العراق ضد حكم الرئيس شكري القوّتلي ورجل استخباراته القوي عبد الحميد السرّاج، ولكن العملية فشلت بعد اكتشاف شاحنة أسلحة منقولة من لبنان إلى سوريا عن طريق الصدفة بسبب تعرّضها لحادث مرور. كان لبنان يشكل وقتها أيضاً ساحة للعبور إلى دمشق وكانت محاولة الإنقلاب تلك تستهدف وقف عملية الإندفاع، في اتجاه قيام الوحدة بين مصر وسوريا بقيادة جمال عبد الناصر التي كانت ستواجه قيام حلف بغداد.

 

حسني الزعيم كان مقيماً في لبنان وسُجِن مدة في سجن المية ومية قبل أن يعود إلى سوريا وإلى الجيش السوري ويقود انقلاب 1949. بدوره أديب الشيشكلي بعد نجاح الإنقلاب ضده في العام 1954 استطاع أن يغادر سوريا ويلجأ إلى السفارة السعودية في بيروت قبل أن يغادر إلى البرازيل.

 

غسّان جديد هو شقيق اللواء صلاح جديد شريك حافظ الأسد في انقلاب حزب “البعث” في 8 آذار 1963، وقد تمكّن من قيادة الثورة في العام 1966 بعد الإنقلاب على الرئيس أمين الحافظ. ولكنّ الأسد نجح في الإنقلاب عليه في العام 1970 وزجّه في سجن المزّة حيث أمضى 23 عاماً، ولم يخرج منه إلا إلى مثواه الأخير في 19 آب 1993.

 

المعادلة بالمقلوب

 

منذ العام 1970 قلب حافظ الأسد المعادلة بعدما أمسك بالسلطة بقبضة من حديد. في 21 شباط 1973، بعد فتح محاكمة ضباط المكتب الثاني في الجيش اللبناني على عهد الرئيس سليمان فرنجية، اختار الضابط سامي الخطيب أن يلجأ إلى دمشق. ذهب يسأل الرئيس فؤاد شهاب رأيه بالأمر فترك له حرية الخيار. كان سبقه إلى هناك عن طريق مزارع دير العشائر قائد الجيش السابق العماد أميل البستاني، بعد فتح ملف تقاضي رشى في صفقة صواريخ كروتال التي اشتراها لبنان من فرنسا. توجه الخطيب إلى دمشق عن طريق بلدته جب جنين في البقاع الغربي عبر طريق جبلية سيراً على الأقدام إلى جديدة يابوس. بعد وصوله إلى دمشق بخمسة أيام استقبله الأسد. أراد أن يشكره ولكن الأسد قال له: “ليس لك أن تشكرني، بل أنا الذي أريد أن أشكرك. بفضلك تغيّرت وجهة اللجوء السياسي التي كانت دائماً من الشرق إلى الغرب. الآن أصبحت من الغرب إلى الشرق، فشكراً لك”.

 

قبل الأسد ومعه كانت سوريا تتحكّم بالمصير اللبناني من خلال فرض الحصار البرّي عليه، باعتبار أن دمشق كانت الرئة التي يتنفّس منها لبنان لأنّها معبره البرّي الوحيد إلى العالم. ولكن اليوم بعد فرض تطبيق قانون قيصر بدأت المعايير تتغيّر. كان الأسد قد أطلق شعارين لم يتخلّ عنهما وهما: أن لبنان وسوريا يربطهما نفس المسار ونفس المصير وأنّهما شعب واحد في دولتين. ولكنّ الشعارين سقطا تباعاً لتتحوّل سوريا نفسها أكثر من شعب في دولة واحدة، ولتحاول اليوم مع ابنه بشار أن تربط مسارها ومصيرها بلبنان وأن تجعل منه الرئة التي يمكن أن تتنفّس منها.

 

منذ بدأت الحرب في سوريا كان لبنان شكّل ممراً إلى تزخيم تلك الحرب. “حزب الله” من جهة والمقاتلين الداعمين للجماعات الأصولية والمعارضة السورية من جهة ثانية. كان هناك أيضاً أكثر من شعب في لبنان. منذ تولّي الرئيس العماد ميشال عون رئاسة الجمهورية وبعد تحقيق تقدم عسكري للنظام وحلفائه في حمص ومحيط دمشق، وبعد فتح معبر نصيب على الحدود مع الأردن تمّ فتح النقاش في لبنان حول ضرورة قيام علاقات رسمية موسعة مع النظام السوري، لما فيه مصلحة لبنان من أجل أن يتمكّن من الوصول إلى دول الخليج. وتمّ الحديث أيضاً عن ضرورة التنسيق الأمني والسياسي على أوسع نطاق بما يشبه فكّ العزلة التي يعانيها النظام الخارج من جامعة الدول العربية، والخاضع لعقوبات أميركية صارمة ولكنّ المسألة لم تكن بهذه السهولة.

 

إقفال البوابات

 

بعد ثورة 17 تشرين وتداعيات الإنهيار المالي في لبنان كان النظام في سوريا يواجه أيضاً انهياراً مماثلاً. بدا كأّنه بات يستمدّ معطيات الإستمرار على قيد الحياة عبر البوابات المفتوحة من لبنان. اليوم وبعد بدء تطبيق قانون “قيصر” يبدو أنّه يخشى أن تنغلق هذه البوابات عليه حتى يكاد يختنق. على لبنان أن ينسجم مع مقتضيات هذا القانون حتى لا يتعرّض للعقوبات. ومحاولة الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله القفز فوقه لم تنجح، ذلك أن دعوته إلى التوجّه شرقاً لا تجد أبواباً مفتوحة من أجل العبور. ثمّة بوابات يجب أن تُقفل. إذا لم تستطع السلطة اللبنانية أن تمنع عمليات التهريب “الشرعي” وغير الشرعي فقد يدفع لبنان الثمن، من خلال منع وصول بواخر النفط والفيول والمازوت بحيث تصير هذه المواد في عداد المفقودة تماماً كما هو الوضع مع الدولار اليوم.

 

مسألة فتح العلاقات مع النظام السوري ظهر وكأنّها ليست مسألة عاديّة يمكن أن تمرّ. كان بإمكان العماد عون أن يذهب إلى دمشق ويستقبله بشار الأسد ويضع طائرة خاصة بتصرفه. ولكن منذ انتخابه رئيساً للجمهوريّة لم تكن مثل هذه الزيارة متاحة. وكان بإمكان رئيس “التيّار الوطني الحرّ” جبران باسيل أن يعلن وهو وزير للخارجية أنّه سيقوم بزيارة سوريا وأن يدعو إلى إعادتها إلى كنف جامعة الدول العربية، ولكنّه اليوم ربما ألغى هذا الإحتمال من يومياته. وكان بإمكان أيّ وزير أن يقوم بزيارة إلى دمشق وأن يلبّي دعوة زميله السوري ولو من دون موافقة الحكومة، ولكن يبدو أن لا مواعيد بعد اليوم لأي وزير في دمشق.

 

لا شكّ في أن الأسد الإبن في موقف لا يُحسد عليه. يوم الثلثاء 16 حزيران الحالي حاول الأمين العام لـ”حزب الله” السيّد حسن نصرالله أن يوحي بأن محور الممانعة في دمشق ولبنان في أفضل حالاته وأنّه سينتصر على تطبيقات قانون “قيصر”، وهدّد كل من يحاول أن يوافق على الإنصياع له وتطبيق مفاعيله. ولكن خطابه أعطى انطباعات معاكسة. طريقة التعاطي مع قانون “قيصر” ذكّرت بطريقة تعاطي النظام السوري و”حزب الله” مع القرار 1559 عندما اعتبرا أنه لا يساوي إلا قيمة الحبر الذي كُتِب فيه، وقد ظهر لاحقاً أنه ليس كذلك. المهم ألا يدفع لبنان مرة جديدة ثمن إنقاذ النظام السوري.