IMLebanon

بين لبنان وأوكرانيا: تماثُل في السياسات وأمثولات من التاريخ

 

مُضحك ومبك في آن معاً بيان لبنان حول الحرب في أوكرانيا. بلدنا الصغير، المحطّم، الجائع، الذي يشحَد من العالم المواد الغذائية لإطعام شعبه وقواه الأمنية، البلد المفلس الواقف على باب البنك الدولي لِمدّه ببضعة دولارات لمساعدة العائلات المعدومة، هذا البلد بالذات أراد الدخول في لعبة الكبار وإصدار بيانات ومواقف عالية النبرة والاصطفاف في محاور دوليّة.

هو غير قادر على ترحيل العائلات اللبنانية المحتجزة في أوكرانيا لكنه يصرّ على أن يكون له موقفه في الشؤون الدولية. كل ذلك من دون أن يسأله أحد، ولا أن يطلب منه أحد، ومن دون أن يكون موقفه بذات أهمية أو مؤدياً الى أي نتائج عملية. نحاول أن نفهم ولم نصل الى نتيجة، وان كان تحدّث البعض عن أن البيان العالي النبرة قد يكون له ثمن يقبضه البعض في حساباتهم الشخصية المادية أو المعنوية لكن من دون أي مردود للمصلحة الوطنية العامة.

كان بإمكان لبنان أن يصدر بيانا إنسانيا انطلاقاً من معاناته الطويلة مع الحروب، فاللبنانيون تعلّموا أن الحروب هي دوماً مدمّرة حتى للمنتصر فيها، وان الحروب تترك وراءها الركام والرماد، كذلك هي تشرّد العائلات وتخلّف أرامل وأيتاماً، وأن الخروج منها أصعب بكثير من الدخول فيها. كان بإمكان لبنان أن يدعو من منطلق إنساني الى تجنّب الحرب وأن يَحثّ الأطراف على الجلوس الى طاولة المفاوضات حقنا للدماء، والدموع، والمآسي والكوارث.

انطلاقاً من تجارب لبنان وتاريخه، وخصوصا من موقعه الجيوسياسي الواقع بين دولتين توسّعيتين تحملان أطماعا علنيّة في أراضيه، وشنّتا عليه أكثر من اعتداء، وهما تزيدانه قوة وتسلّحا بأضعاف، كان يمكن للبنان أن ينصح اوكرانيا بمواقف أكثر اعتدالا وعدم منح جارها، ذلك الدب الروسي، أيّ ذريعة كمثل تحويل أرضها الى منصّات صواريخ تهدده، أو الدخول في احلاف معادية له.

البطولة ليست في أن يرمي الرئيس الاوكراني بلاده في أشداق الدب ليقاوم فيما بعد، ولا أن يلعب أدواراً أكبر من حجمه. البطولة ليست دوماً في حمل السلاح، ولا بخوض المعارك، بل هي في معرفة حماية بلاده وشعبه من الدمار والمآسي وضمان الإستقرار الضروري لازدهار بلاده وسعادة شعبه.

تعلّمنا السياسة البراغماتية أن الدول الصغيرة يفترض بها أن تتحلّى بالحكمة، وأن تجد أفضل السبل كي لا تقع ضحية الدول الكبرى المستفرسة. كما تعلّمنا أن هناك قيادات تنتهج السلام والحوار أسلوبَ تعاطٍ، فيما غيرها لا تفقه إلّا لغّة القوّة والعنف.

وعلّمتنا التجربة أن المقاومات وإن كانت مصدر مجد وفخر وإباء، إلّا أنها قد تجرّ الويلات على شعوبها من دون فائدة اذا لم يحسن استخدامها والتحضير لها وحمايتها. لم ينس اللبنانيون بعد «حرب التحرير» ضد الجيش السوري في لبنان وما تركت من ذيول إنسانية وسياسية. لا دموع الأمهات جفّت بعد، ولا أهل المفقودين نسوا أبناءهم. لم ينس اللبنانيون أيضا حرب تموز ضد العدو الإسرائيلي وما آلت اليه، وما زالت تتردّد تلك العبارة الشهيرة «لو كنت أعلم».

كان على الرئيس الاوكراني أن يستفيد من دروس كثيرة مرّت بها بلاده ومنطقته. هو يعلم جيداً أن بوتين يريد أن يعيد أمجاد الإتحاد السوفياتي، وأن نزعته عسكرية حاسمة، وهو يرى كيف يسقط بوتين أخصامه في موسكو بطرق مختلفة. لا شيء يقف في وجه طموحاته. كان الاجدى بالرئيس الاوكراني ابن الـ 44 عاماً، ان يستخلص عبر التاريخ من امثولات الحروب التي دمّرت أوروبا، أو من تجارب «ربيع براغ» الذي سحقته دبّابات الاتحاد السوفياتي عام 1968، و»ريبع المجر» الذي لقي المصير نفسه عام 1956. أولم يدرك أن بوتين يعتبر نفسه وريث الإتحاد السوفياتي، ويسعى وراء تحقيق روسيا الكبرى!

لذلك لا بد من السؤال: لماذا أدخل زيلينسكي بلاده في هذا الصراع مع روسيا مع معرفته بعدائيتها؟ فقد سبق لها أن قادت عدة حروب في عهد بوتين ضد جيرانها، عام 2008 كانت حرب بوتين على جورجيا، التي امتدت خمسة أيام وأوقعت 800 قتيلاً. وفي عام 2014 غزا بوتين منطقة القرم التابعة لأوكرانيا وضمّها الى نفوذه. وقد استنتج المراقبون حينها أن روسيا بوتين لن تقيم وزناً للمؤسسات الدولية ولا للقانون الدولي وأن بوتين على قناعة أن العالم هو للأقوى، وربما هو ليس على خطأ، فقد شاهد الغرور الأميركي – الأطلسي في غزو أفغانستان عام 2001، وغزو العراق عام 2003، وغزو ليبيا عام 2011، والحرب على يوغوسلافيا عام 1992. فلماذا ما هو مسموح للغرب ممنوع على روسيا؟

لماذا أراد الرئيس الأوكراني تحدّي الدب الروسي بدلاً من مفاوضته؟ لماذا لم يسع الى تحييد بلاده وهي على احتكاك مع القوى العالمية المتصارعة؟

آخر زعيم للاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، كان قادراً على الإستمرار في الإمساك بالإتحاد السوفياتي وان يواصل السياسات السلطوية للحزب الشيوعي الذي كان يمسك بالحكم في روسيا وكامل دول أوروبا الشرقية. لكنه شاهَد فقر شعبه وبؤسه واعتبر أن النظام الشيوعي لا يحقّق سعادة الشعب ولا اكتفاءه المادي، فاتخذ قراره التاريخي عام 1989 بإسقاط جدار برلين وفَكفكة الستار الحديدي والانفتاح على الليبرالية وعلى العالم. فالسياسات تختلف تبعاً للقيادات.

صحيح أن التاريخ يصنعه قادة أفراد يكونون في مواقع المسؤولية والقرار. فقرار الحرب والسلم يتخذه قادة في مواقع المسؤولية، والجيوش تأتمر بهم. نتذكّر دوماً كيف أن قادة دول وزعماء ساهموا في تطوير بلادهم ورقيّها وقيادتها نحو البحبوحة والسلام فيما هناك قادة آخرون قادوا بلدانهم وشعوبهم الى جحيم الحروب