IMLebanon

بين الثورة البولشيفية والثورة الإيرانية

 

هناك مجموعة أحداث، يمكن وصفها بالتاريخية، طبعت القرن العشرين بدءاً بالثورة البولشيفية التي مهدّت في العام 1917 لقيام الاتحاد السوفياتي وتحوّله شيئاً فشيئاً إلى قوة عظمى عاشت خمسة وسبعين عاماً.

 

امتلك الاتحاد السوفياتي كلّ مُستلزمات القوّة العظمى باستثناء الاقتصاد القويّ. بلغ به الأمر امتلاك أيديولوجية متماسكة ودول «مستقلّة» تدور في فلكه في أنحاء مختلفة من العالم وصولاً إلى شواطئ بعيدة مثل أثيوبيا أو اليمن الجنوبي. كان لديه حلف وارسو في مواجهة الحلف الأطلسي. كان لديه نصف صواريخ العالم ودبّاباته وترسانة نوويّة لا تزال موجودة إلى اليوم، وإنّ في حوزة روسيا الاتحادية. غيّر قيام الاتحاد السوفياتي العالم. زاد الاتحاد السوفياتي من نفوذه وتمدده بعد الحرب العالمية الثانية واتفاق يالطا الذي قسّم قارات ودولاً. جعل اتفاق يالطا الاتحاد السوفياتي يهيمن على نصف أوروبا، بما في ذلك على قسم من ألمانيا، أي ما كان يُعرف بألمانيا الشرقية.

 

لم يشفع كلّ ذلك بالاتحاد السوفياتي الذي ما لبث أن انهار لتقوم مكانه دولة روسيا الاتحادية التي لا تزال دولة قويّة، لكنها ليست في مستوى ما كان عليه الاتحاد السوفياتي. لا تزال روسيا تبحث إلى اليوم عن طريقة تُثبت من خلالها أنّها ما زالت تمتلك نفوذاً خارج حدودها. تعلّمت من تجربة الاتحاد السوفياتي ولم تتعلّم منها في الوقت ذاته..

 

لا تقلّ الثورة الإيرانية التي انتصرت في مثل هذه الأيّام من العام 1979 أهمّية عن الثورة البولشيفية. غيّرت الثورة الإيرانية، وكانت ثورة شعبية حقيقية، طبيعة الشرق الأوسط والخليج وحتّى مناطق أخرى في العالم وصولاً إلى اليمن من جانب وأفغانستان من جانب آخر. حققت اختراقات في عمق المنطقة مُستخدمة سلاحين في غاية الأهمّية والخطورة هما الغرائز المذهبية وخطف القضيّة الفلسطينية من العرب. قبل نجاح الثورة الإيرانية والإعلان عن قيام «الجمهورية الإسلامية»، لم يكن هناك صراع مكشوف ذو طابع سنّي – شيعي. وقبل الثورة الإيرانية، لم يكن هناك من لا مهمّة له سوى المزايدة على العرب فلسطينياً. قبل الثورة الإيرانية، كان لبنان شيئاً آخر، كذلك سوريا والعراق. استطاعت الثورة الإيرانية خلق صراع سنّي – شيعي في المنطقة واستطاعت في الوقت ذاته سرقة القضيّة الفلسطينية من العرب. لم يكتفِ الخميني بإعلان آخر يوم جمعة من شهر رمضان «يوم القدس» فحسب، بل نجحت إيران أيضاً في تعطيل أي فرص لتسوية معقولة يمكن التوصّل إليها مع إسرائيل. قطعت «الجمهورية الإسلامية» على الفلسطينيين أيّ فرص أمام تسوية عبر نجاحها في جعل «حماس» تنفّذ عمليات انتحارية لم تخدم سوى اليمين الإسرائيلي الرافض أصلاً لأي تسوية من أيّ نوع مع الفلسطينيين، خصوصاً خيار الدولتين. لعبت إيران دوراً في غاية الأهمّية، عبر «حماس» وغيرها، في تغيير طبيعة المجتمع الإسرائيلي وجعله أكثر يمنية وتطرّفاً.

 

ما يعيشه الفلسطينيون اليوم من مآسٍ هو نتيجة لنجاح إيران في إحباط أيّ أمل بتسوية في مرحلة كان يمكن فيها تحقيق بعض التقدم على طريق قيام الدولة الفلسطينية المُستقلة التي صارت حلماً.

 

في أربعين عاماً، استطاعت إيران التحوّل إلى لاعب إقليمي أساسي، إن لم يكن الأساسي في المنطقة، في ظلّ تراجع الدور المصري. يتحمّل العرب عموماً مسؤولية جزء كبير من تراجع مصر بعدما أصرّوا على عزلها إثر زيارة أنور السادات القدس المحتلة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1977، ثم توقيع اتفاقي كامب ديفيد في أيلول (سبتمبر) 1978، وصولاً إلى توقيع معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية في آذار (مارس) 1979. كانت إيران التي وجدت لدى قيام «الجمهورية الإسلامية» مصر خارج جامعة الدول العربية المستفيد الأوّل من الوضع العربي الجديد الذي دفع في اتجاهه البعثان السوري والعراقي. فجأة وضع البعثان كلّ خلافاتهما جانباً وقررا التصدّي لأنور السادات غير مدركين للنتائج التي ستترتب على ذلك لاحقاً. هيّأ صدّام حسين، حتّى في ظل رئاسة أحمد حسن البكر، الأجواء لتسلل إيران إلى النسيج العربي وإلى الداخل العراقي. دفع الثمن غالياً في 1980 عندما وجد نفسه في مواجهة مباشرة مع إيران التي خاضت حرباً مع العراق استمرّت ثماني سنوات كانت فيها مدعومة من حافظ الأسد ومعمّر القذّافي..

 

لكنّ الخيبة الأكبر كانت تلك التي أصابت ياسر عرفات الذي اكتشف بعد زيارته الأولى لطهران ولقائه مع الخميني أن المطلوب منه أن يكون في جيب «الجمهورية الإسلامية»، وأن ينسى الدور الذي لعبه في دعم كلّ من أراد التخلّص من الشاه. شمل دعمه تدريبات عسكرية في الأراضي اللبنانية لمجموعات إيرانية من مشارب مختلفة كان يجمع بينها العداء لنظام الشاه.

 

من الاستفادة إلى أبعد حدود من الغياب المصري الذي فرضه على العرب الآخرون، بالقوة والإرهاب، البعثان العراقي والسوري، إلى الانتشار في لبنان وتهديد العراق ودول الخليج العربي، وصولاً إلى الوضع في سوريا واليمن، لا يزال هناك سؤال غامض يطرح نفسه بإلحاح. ما سرّ العلاقة الأميركية – الإيرانية منذ العام 1979؟ ما سرّ الاجتياح الأميركي للعراق في 2003 في وقت كان الطفل يُدرك أن الرابح الأوّل من أيّ حرب تؤدي إلى تغيير للنظام العراقي من دون تحضير جيد لمرحلة ما بعد صدّام، سيكون إيران ولا أحد آخر غير إيران.

 

كان يمكن لإيران في عهد الخميني ثم عهد خامنئي أن تكون نسخة مُختلفة عن إيران الشاه. كان في استطاعتها تجنيب المنطقة الكثير من الويلات بدل الدخول في مزايدات مع هذه الدولة العربية او تلك تحت عنوان من هو مسلم أكثر من الآخر؟ في عهد «الجمهورية الإسلامية»، زاد الشيعة تطرّفاً وجرّوا معهم السنّة إلى سلوك هذا الطريق. لم تكن العلاقة العميقة بين الإخوان المسلمين وإيران غائبة عن المشهد الإقليمي في أيّ وقت. يظلّ الشاهد على ذلك الشارع الذي يحمل اسم خالد الإسلامبولي، قاتل أنور السادات في إيران.

 

ما لم يتغيّر طوال أربعين عاماً هو غياب الجدّية الأميركية في مواجهة إيران. ما لم يتغيّر أيضاً هو استمرار العدائية الإيرانية التي أسس لها نظام الشاه. الجزر الإماراتية الثلاث (أبو موسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى) ما زالت مُحتلة منذ العام 1971. انتصرت إيران في غير دولة عربية، في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وكادت أن تنتصر في البحرين. انتصرت عملياً على شعوب عربية رافعة شعار «الموت لأميركا والموت لإسرائيل». لم تمت أميركا ولم تمت إسرائيل..

 

بعد أربعين عاماً على عودة الخميني إلى طهران، تغيّرت المنطقة كلّها، ولكن نحو الأسوأ. ما لم يتغيّر هو تلك النظرة الفوقية الإيرانية إلى العرب الذين قبل بعضهم أن يكون ميليشيا مذهبية تعمل في خدمة مشروع توسّعي لا أفق له. تماماً كما كانت حال المشروع السوفياتي. فما يجمع بين الثورة الإيرانية والثورة البولشيفية هو مشروع قائم على التمدّد خارج الحدود من دون قاعدة اقتصادية تتمتع بحدّ أدنى من مقومات الحياة. كانت إيران الشاه تعتمد على النفط والغاز.. صارت إيران الخميني أكثر اعتماداً عليهما. تستطيع إيران أن تخرّب في الداخل والمنطقة، لكنها لا تستطيع البناء أو تقديم أي نموذج مرتبط بثقافة الحياة من قريب أو بعيد..