IMLebanon

ما بين تركيا وروسيا… بوتين ليس شيوعياً وأردوغان ليس أتاتوركياً

لا يبدو أنّ العلاقات الروسية – التركية ستشهد هدوءاً في الأشهر المقبلة، ذلك أنّ كماً كبيراً من التراكمات شابت هذه العلاقة، فتداخلت فيها عوامل عدة لتؤجّجها وتدفعها نحو مسار من الصعوبة التكهن بما ستؤول إليه.

القضية ذات بعد تاريخي، ومرتبطة بالتكوين الشخصي-النفسي لقائدي البلدين لجهة عدم حسبان النتائج والانقياد وراء ردود الأفعال، وفي التناقض التاريخي بين الطورانية والسلافية، وفي مسار طويل من العلاقات والحروب التي تكبّد فيها الشعبان خسائر هائلة.

وإذا تتبعنا الخطأ القائم اليوم في تحليل ما يحصل، يحار المرء من أين يبدأ، ذلك أنّ أعداء تركيا وأردوغان ينسبون الى بوتين شيوعيته وسعيه الى عظمة الدولة، والرجل يرفض هذا المنطق وهو بعيد منه، بدليل الاختلاف العميق في الرؤى مع الحزب الشيوعي الروسي الخصم الخطر لبوتين انتخابياً، فموقف بوتين أقرب الى الإيمان بفكرة القومية الروسية.

وكذلك النظرة الى موقف اردوغان الذي ينسبه البعض الى الأتاتوركية، وهو الذي يسعى الى إعادة النظر بالكثير من إصلاحاتها، ومحاولة إيقاظ الأحلام التاريخية في أواسط آسيا وبين الشعوب التركية في روسيا وتأجيج العصبية العرقية عند الأتراك.

الأخطر أنّ الأخطاء التاريخية التي ارتُكبت من سلاطين العثمانيين وقياصرة روسيا، تُستحضر اليوم بكامل عدتها لنشهد تكراراً للسلوكيات عينها، والتي تسعّر مناخات عدم الثقة بين البلدين بعدما شهدت في العقود الأخيرة تفاعلاً وشراكة في مجالات عدة.

لا بدَّ من القول إنّ قيادات الكرَملين لا تقرأ كتب التاريخ جيداً، فالمطلوب الدفع بالمقاربات التاريخية كي لا نقع في المحظور، خصوصاً بشأن الحرب المستجدة بين تركيا وروسيا، والتي تجاوزت العقد الجيوبولوتيكية الى الشخصية.

اليوم إذن هي حرب تركية روسية جديدة، وإن كانت تتخذ شكل الحرب الباردة مع تجنيد الطرفين كلّ الوسائل لكسبها، ونحن لا نتحدث عن النتائج الاقتصادية وتدهور العلاقات فقط، بل انخراط عدد من علماء التاريخ والاجتماع الروس الذين يستحضرون تلك الصور المجيدة للانتصارات الروسية في حروب القياصرة مع الأتراك منذ ياكيتيرينا الثانية الى بطرس الأكبر، وبنود معاهدات كارلوفتش عام 1699 وتخلّي العثمانيين عن كامل المجر وترانسلفانيا ومعاهدة بلغراد وبوخار عام 1773 والتي تمّ التنازل فيها للروس عن عدد كبير من القلاع والحصون وإباحة حرّية الملاحة في بحر ايجه والبحر الأسود وحقّ حماية المسيحيين الأرثوذوكس في السلطنة العثمانية.

لكن ما يسقطه هؤلاء هو الأسباب والنتائج التي خفتها حرب القرم في عام 1853عندما قرّرالقيصر نيقولا الأوّل معالجة المسألة الشرقية وحاول انتزاع البلقان ومقاطعات الدانوب من تركيا الضعيفة، بل كان ينوي الوصول الى الأماكن المقدسة في القسطنطينية لحمايتها وصولاً الى فلسطين التي كانت تحت سيطرة السلطنة العثمانية.

يومها كلّف نيقولاي فيودور تيتشوف صياغة فلسفة هذه الحرب، والتي أدخلها في عقل وقلب القيصر، ليتّضح أنّها كانت فلسفة طوباوية، ورُسمت خطوطها على أساس إنجاز مشروع الامبرطورية الأرثوذوكسية العظيمة، واستعادة القسطنطينية، وإعادة توحيد الكنيستين الشرقية والغربية، واستعادة الهيمنة الأرثوذوكسية وإخضاع روما لسلطة الإمبراطورية العظيمة الأرثوذوكسية.

وإذا حققت حملة الجيش الروسي في حينها بعض الإنجازات، فدخلت القوات الروسية مولدوفا، وتمكّن الأدميرال ناخيموت من حرق الأسطول التركي في حوض سينبوفسكي.

لكن لم يكن أحد يتوقع أن تتحالف فرنسا وبريطانيا ضدّ روسيا، خوفا ًمن التمدّد الروسي في البلقان والشرق الأوسط، حتى أنّ نيقولاي لم يصدّق أنّ باستطاعة فرنسا وإنكلترا شنّ حملة عسكرية نحو مناطق النفوذ العثماني، ولم يكن ليصدق أنّ الدولتين كانت تتفوّق على روسيا في مجال السفن البخارية، فلا شجاعة الجنود الروس ولا التجربة المكتَسبة في حرب ما وراء القوقاز استطاعتا مواجهة هذا التقدّم العسكري في حينه.

حتى إنّ النمسا وهنغاريا والتي كان نيقولاي يعتبرهما حليفين بعد مساعدتهما في وأد الثورة في بودابست، أعلنتا تاييدهما السياسي للحلف البريطاني-العثماني- الفرنسي .الأنكى أنّ النمسا هدّدت لاحقاً بشنّ حرب على روسيا، وهذا ما دفعها الى التوقيع على اتفاقية العار في باريس.

لقد دمر الأسطول الروسي في سيباستوبل وتكبدت القوات الروسية ما يناهز المئة ألف قتيل، وخسرت روسيا بيس أرابيا واراضي كثيرة فيما وراء القوقاز ورفعت الحماية الممنوحة للروس عن إمارة الدانوب وفقدت حرّية الملاحة في البحر الأسود، بل هي المرة الأولى في التاريخ الذي تتعرّض فيه دولة عظمى الى تجريدها من كلّ النتائج المالية وانهيار قيمة الروبل. وتردَّد أنّ نيقولاي وبسبب هذه الهزيمة قرّر الانتحار كي لا يشعر بالذلّ وسرت شائعات أنّه قتل نفسه لأنه لم يستوعب ما حصل.

جاء الدرس قاسياً، بعدها أعلن القيصر الجديد نيقولا الثاني عن إصلاحات اقتصادية كبرى، وألغى عبودية الفلّاحين وأنجز إصلاحات في القضاء والاقتصاد والتربية والجيش، وأنشأ «الزامسفو» أيْ المجالس المحلية الشعبية، وأصدر عفواً عن المعتقلين السياسيين وسعى الى إعادة تحسين العلاقات مع الغرب.

وفي خلال عشرين عاماً استعادت روسيا ما خسرته وخصوصاً في حرب عام 1877-78 وانتزعت كلّ ما احتلّته الامبرطورية العثمانية في الجزء الأوروبي.

بعد الحرب العالمية الثانية حاول الاتحاد السوفياتي إعادة النظر في اتفاقية مونيرييه وفي حياد البحر الأسود، وإزالة الرقابة على مضيقي البوسفور والدردنيل، وطلب من الأتراك أعادة الكثير من الاراضي التي سبق للعثمانيين أن انتزعوها من روسيا، ما دفع الغرب مجدَّداً للدفاع عن تركيا وإعلان ضمّها الى حلف الناتو، ما حوّل تركيا الى أهمّ قاعدة عسكرية له في كلّ الشرق الاوسط.

إنّ ما يرتكبه بوتين اليوم من دون أخذ العبر التاريخية والضغوطات التي يمارسها على تركيا قد يدفع الغرب إلى إعلان ضمّ تركيا الى الإتحاد الأوروبي.

فعندما اندلعت حرب شرق أوكرانيا، بادر بوتين الى اعتماد مبدأ الحرب الهجينة أو بالواسطة، ظنّاً منه أنّها ستنهار تحت أقدامه، ويبدو أنّ بوتين يعتمد اليوم المبدأ عينه بإعلانه الحرب الهجينة مع تركيا والمباشرة في سوريا.

وإذا كان القيصر نيقولاي الثاني يسمي تركيا الرجل الأوروبي المريض، فإنها على عكس تمنيات بوتين تظهر اليوم قوية ومتعافاة، وما ستظهره الأشهر المقبلة أن المريض الأوروبي اليوم هو مَن يقود حرباً هجينة على تركيا بدليل ما ترتّبه حربه في ساحل المتوسط.