IMLebanon

أبعد من ماراثون بيروت….

لم تحظَ ساحة رياض الصلح حتى الآن، برغم الأسوار الشائكة والمكعبات الإسمنتية التي شيّدت حولها، وبرغم الأدبيات السياسية «الراقية» التي خطّها ناشطو الحراك المدني على جدران الأبنية المحيطة بها – على امتداد حملاتهم المتعاقبة -بشرف الانضمَام الى مربعات وساحات التغيير، التي ارتادها مئات الآلاف من المواطنين في بلدان عدة للتعبير عن سخطهم، من مربع «التحرير» في القاهرة، إلى مربع «تقسيم» في اسطنبول، إلى مربعات «أثينا» التي شهدت احتجاجات شعبية ضد سياسة التقشف الحكومية. كذلك لم ترتقِ السرايا الحكومي – المركز المفترض للقرار السياسي- في الوعي أو اللاوعي الجماعي لدى المواطنين، إلى منزلة اعتبارها الجهة القابضة على النشاط السياسي والمسؤولة عن كل ما آلت اليه البلاد من مآزق سياسية وإقتصادية وسواه.

ساحة رياض الصلح لم تجتذب «سوقها الكرنفالي» يوم السبت الفائت سوى بضع مئات من المواطنين. فشلت الجهة الداعية في وقف تراجع ديناميكية «الحراك الشعبي» الذي تحوّلت شعاراته، بفعل افتقارها الى الرؤيا الجامعة والأفق السياسي، إلى تعبيرات سطحية غير قادرة على إحداث أي وقع في وجدان الشعب اللبناني. وسائل الإعلام أظهرت من خلال تغطيتها للحدث مدى العبث ومدى القدرة على استباحة دورة الحياة العادية للمواطنين تحت مسميات سياسية. إنّ الرومانسية المدّعاة من خلال الحنين إلى الأسواق القديمة، الذي أشار اليه البعض، بما كانت تؤمّنه من مساحة التقاء للمواطنين حجبتها إعادة إعمار العاصمة هو ادّعاء يفتقر إلى الواقعية، لأن العاصمة وضواحيها زاخرة بالأسواق والساحات الشعبية التي لا يرتادها سوى سكانها المحليين، وهي لا تشكّل عامل جذب لسواهم وذلك لأسباب أمنية وسياسية. إنّ توسيع المساحة المشتركة بين اللبنانيين هو عمل تراكمي يومي يقوم على حقيقة أساسية مفادها أنّ الشعب هو وحدة إجتماعية مؤلفة من أفراد راشدين أحرار، مختلفين فيما بينهم ومتساوين في الحقوق والواجبات الأساسية، وليس على أي تطوير مديني. لقد عرفت بيروت خلال الخمسينيات من القرن المنصرم ولدى تطوير مرفئها تغييراً ديموغرافياً وعمرانياً كبيراً أدى إلى انتقال الكثير من أهلها إلى الضواحي دون أن يؤثر ذلك على الروابط الإجتماعية والإنسانية فيما بينهم، كما أنّ معظم العواصم الأوروبية أُعيد تنظيمها بعد الحرب العالمية الثانية دون أن يؤثر ذلك على التماسك الوطني لديها.

 على الجغرافيا ذاتها، وفي المدينة عينها بيروت، نجحت جمعية «ماراثون بيروت» بحشد حوالي أربعين الفاً من المواطنين، وبضع مئات من الرياضيين الأجانب من ثلاث وثمانين دولة، غصّت بهم شوارع الوسط التجاري، للمشاركة في سباقها الثالث عشر. المشاركون دون أدنى شك يمثّلون عيّنة معبّرة عن المجتمع اللبناني بمختلف أوساطه السياسية والطائفية والوظيفية والمناطقية، وهم يعيشون مشكلة النفايات ومشكلة فساد السلطة السياسية ومشكلة تعثّر المؤسسات الدستورية ومشكلة البطالة إلى جانب مشكلة الإستشفاء وسواها… ركضوا جميعاً تحت شعار» نركض للحب، نركض للسلام، نركض للبنان».

«ماراثون بيروت» تمكّن من جمع جمهور كبير ومتنوّع من اللبنانيين لم تستطع، برغم أحقيّة المطالب المرفوعة، أيّة من منظّمات المجتمع المدني جمعه. ربما يتمكّن بعض السياسيين من حشد اعداد أكبر من المواطنين، من ضمن موقف إستفزازي أو تعبوي تحتضنه مناسبة دينية أو قضية حزبية ترمي إلى شدّ العصب الطائفي، ولكنّ هذا الحشد يفتقر إلى التمثيل والتنوع، إذ غالباً ما يذهب اللبنانيون إلى هذه المناسبات ليس قناعةً بها، بل لأن السلطان السياسي الذي دعا إلى هذه المناسبة، يتقاطع مع أبسط مقوّمات حياتهم ومستقبلهم ويحرجهم أمام بيئة سياسية منغلقة لم تتوفر لهم بدائل الخروج منها.

 الساحتان، ساحة الماراثون وساحة الحراك المدني تظهران منطقين مختلفين في التعبير، ساحة الماراثون تريد البناء على الإيجابيات وتطوير المساحة المشتركة، لذلك تبحث عن الحوافز الجامعة ضمن الحيز الإجتماعي والأخلاقي المتاح. ساحة الحراك المدني تقوم بدور «دون كيشوت» فهي تدرك، أنّ القرار السياسي ليس في مكان التحرك، بل هو لدى مجموعة من السياسيين ألغوا سلطة الدولة عن طريق التماهي معها، واحتكروا النشاط السياسي في المجتمع، كما تدرك أنّ توجيه الحراك نحو هؤلاء هو من المحرمات.

إنّ المجتمع، حتى في دولة يسودها العدل، ليس نسيجاً متناغم العناصر، إنّه وحدة إجتماعية تخترقها فوارق عديدة وتدفع حركتها مصالح ونزعات. إنّ التغيير السياسي ليس عملاً يقوم به فرد أو مجموعة من الأفراد أو حتى نخبة سياسية منظّمة، وهو لا يختزل وجهة نظر إحدى الفئات أو الجماعات، إنّه نتاج تراكم عابر للطوائف والحمايات والإقطاعات السياسية. إنّ منظّمات الحراك المدني مدعوّة لقراءة التجربة النقابية اللبنانية العمالية والطلابية التي تمكّنت من تشكيل نموذج يحتذى خلال سبعينات القرن المنصرم، والتي أنجزت الكثير.

  بين الساحتين ثقافتان تنتميان إلى مجتمع واحد فهل يمكن قيادة الحراك المدني بذهنية الماراثون.