IMLebanon

عروبة بكركي

 

إلتفاف اللبنانيين حول بكركي في مطالبتها بالحياد الناشط الإيجابي وبمؤتمر دولي برعاية الأمم المتّحدة يوجّه رسالتين بالغتي الوضوح والدلالة. الأولى باتّجاه الداخل، قال عبرها اللبنانيون من موقع وطني له دوره الطليعي، أنهم ملتزمون الثوابت الوطنية التي يكرّسها الدستور لجهة نهائية الكيان وعروبته وسيادته وحياده الإيجابي عن المحاور الإقليمية، وفي هذا رد على الإنقلاب المستمر الذي يمارسه حزب الله وحليفه التيار الوطني الحر على وثيقة الوفاق الوطني والدستور والدولة المدنيّة، عبر تدمير وإفشال كل ما يمتّ إلى  إرث لبنان منذ إمارة فخر الدين المعني الكبير وحتى اغتيال رفيق الحريري، لبلوغ المؤتمر التأسيسي. وقالت بكركي ومعها مسيحيون من أحزاب تقليدية وقوى مجتمع مدني وثوار 17 تشرين أنهم مختلفون عن القيادات المسيحية القابعة في مواقع القرار السياسية والإدارية في النظرة إلى لبنان الدولة والدور. وفي هذا رد على مشروع تحالف الأقليات الذي  يتشاركه التيار الوطني الحر مع الأذرع الإيرانية المنتشرة من العراق إلى لبنان، محاولاً إسكانه في اللاوعي الماروني لتحويل الموارنة إلى حوثيي لبنان كمقدّمة لعزل المسيحيين عن إنتمائهم الوطني الحقيقي.

 

الردود من الداخل على كلمة البطريرك الراعي التي حاولت الإيحاء بقصور رؤية بكركي عن تقدير المخاطر المحدقة بلبنان، وبعدم جواز الحياد في زمن الإحتلال والإرهاب، كما ورد في تصريح الشيخ أحمد قبلان،  لم تنل من المسار التراكمي الذي اعتمدته البطريركية المارونية في مقاربتها محاولات الإطاحة بالدستور ووثيقة الوفاق الوطني. فقد توجّه غبطة البطريرك في الخامس من تموز ٢٠٢٠  الى رئيس الجمهورية مناشداً «العمل على فك الحصار عن الشرعيّة وعن القرار الوطني الحر، ومطالباً منظمة الأمم المتّحدة العمل على إعادة تثبيت استقلال لبنان ووحدته وتطبيق القرارات الدولية وإعلان حياده». وتابع في عِظة ١٢ تموز ٢٠٢٠ استعراض مسببات ومسوّغات خيار الحياد لـ «تجنّب الإنخراط في سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية، والحؤول دون تدخّل الخارج في شؤون لبنان…. والحرص على وحدته الوطنية وسلمه الأهلي والتزامه بقرارات الشرعيّة الدولية»، مؤكداً على «الإجماع العربي والقضية الفلسطينية المحقّة والمطالبة بانسحاب الجيش الإسرائيلي من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي من قرية الغجر وتنفيذ قرارات الشرعيّة الدولية ذات الصلة»، محذّراً من «محاولة أيٍّ طرف بتقرير مصير لبنان بشعبه وأرضه وحدوده وهويته وصيغته ونظامه وإقتصاده ورفض العبث من قِبل أيٍّ أكثرية شعبية أو نيابية بالدستور والميثاق والقانون».

 

باتّجاه الخارج، لا تقتصر دعوة البطريرك الراعي إلى مؤتمر دولي خاص بلبنان على حلّ مسألة لبنانية داخلية أثارها من خلال جملته الصادمة « لأننا لم نعد قادرين على التفاهم ولا على قيام أي حوار بيننا»، بل هي دعوة للقوى العظمى للإجابة عن استمرار مضيّها في الخيارات التي اعتُمدت منذ ثمانينيات القرن الماضي، التي ارتكزت إلى نظرية صدام الثقافات كخلفيّة إيديولوجية لإسقاط وتدمير دول الشرق الأوسط. والتي شُكّلت على أساسها وترعرعت كلّ تنظيمات العنف والإرهاب وابتُكرت نظرية الفاعلين غير الحكوميين التي قادها المحافظون الجدد في الإدارات الأميركية. وفي هذا رد على طهران التي  تعتدي عبر أذرعها ومشروعها النووي وصواريخها على الشرعيّتين العربية والدولية اللتين احتضنتا إتّفاق الطائف وأنهتا الحرب الإقليمية / الأهلية في لبنان، وربما ستحوّل المسيحيين لاحقاً إلى زينبيّي لبنان وفاطميّيه ينتشرون على تخوم الإمبراطورية الفارسية بنسختها الإسلامية لحماية ثغورها.

 

المؤتمر الدولي الخاص بلبنان هو أكثر من ضرورة في ضوء مرحلة صقل العلاقات بين طهران وواشنطن، وتحوّل الرسائل الأميركية من الرئيس الأميركي جو بايدن ومسؤولي إداراته الى مادة للإبتزاز وإبرام الصفقات بين واشنطن وطهران، وتحوّل الوسطاء الأوروبيين الى مروّجين للهرولة الأميركية وإيجاد الطرق لامتثال إيران لمطالب الوكالة الدولية دون العبء بمغامرات الحرس الثوري الإيراني وأذرعه التي تنسف سيادة الدول في المنطقة.

 

تكتسب دعوة البطريرك الراعي الى مؤتمر دولي من أجل لبنان بعداً عربياً ينطلق من حاجة المنطقة العربية برمّتها لمؤتمر إقليمي يلاقي هواجسها، إذ لا يمكن فصل ما يتعرّض له لبنان عن المشهديّة الكاملة للتهديدات الإيرانية للأمن والإستقرار العربي، التي تبدأ  بالإعتداءات على المناطق الآهلة والمنشآت النفطيّة في المملكة العربية السعودية، ولا تنتهي بما يعانيه الشعب السوري يومياً من دمار نتيجة استعراض القوة المتبادل بين إسرائيل وطهران مروراً بما يشهده العراق من إضطرابات وأعمال عنف آخرها في ذي قار والناصرية.

 

تكتسب بكركي ومعها اللبنانيون من خلال التمسّك بثوابت الدستور ووثيقة الوفاق الوطني والدولة المدنيّة بُعداً وطنياً حداثياً في ظلّ مشهد عربي يعبّر برمّته عن إستعصاء النهوض بالدولة واستحالة الإستقرار والإصلاح في ظلّ قيادة أحزاب دينية أظهرت التجربة عدم قدرتها على الحكم وإدارة أمور الدولة.