IMLebanon

جمهورية الإنحدار في عالم متغيّر

 

ترسم بكركي مع كلّ عظة،مذ دعت إلى الحياد الإيجابي وحتى الدعوة للمؤتمر الدولي من أجل لبنان، حدود وأُطر بناء السلطة المستندة إلى الدستور. أسقط البطريرك بشارة بطرس الراعي كل العناوين/ المحرّمات التي تلطّى خلفها دائماً حكّام الأمر الواقع لتعطيل الحياة الوطنية، بعد أن أسبغوا عليها قداسة مزيفة، بل لم يتوانَ عن اعتبارها «إختلاق لأعراف ميثاقيّة وإجتهادات دستورية وصلاحيات مجازية وشروط عبثية، وكلّ ذلك لتغطيةِ العقدة الأمّ وهي أنّ البعض قدّم لبنان رهينة في الصراع الإقليمي / الدولي».

 

إنقضّت بكركي على التدقيق الجنائي الذي أمتشقه رئيس الجمهورية ميشال عون فقط للرد على تلويح حاكم مصرف لبنان بوقف الدعم، فاعتبر سيّدها أن لا تدقيق جنائيّاً قبل تأليف الحكومة، بمعنى ضرورة وجود سلطة تنفيذية لمواكبة التحقيق واتّخاذ الإجراءات، وأنّ جِديّة طرح التدقيق الجنائي هي بشموليّته المتوازية لا بإنتقائيّته المقصودة. وفي هذا إشارة صريحة إلى مؤسسة كهرباء لبنان أهم مكامن الفساد والمال السياسي،التي تعاقب عليها وزراء تيار الرئيس، والتي تقف دونها كلّ الملاحقات القضائية والخطط الإصلاحية.

 

بكركي التي تدرك محاذير أخذ المسيحيين ومعهم لبنان إلى مغامرات غير محسوبة، والتي تستمد قوّتها  من التمتسّك بالثوابت الدستورية والشرعيتين العربية والدولية، إمتلكت شجاعة التمايز والتخلي عن احتضان رئاسة الجمهورية، بعد أن آثرت الأخيرة الصدام مع محيطها الوطني والعربي. باختصار إختارت بكركي احتضان لبنان الكبير بعد أن غادرته رئاسة الجمهورية.

 

على خط موازٍ تواصل السلطة سقوطها المتسارع وتتهاوى معها بقايا جمهورية الإصلاح والتغيير والتحرير، بما يجعل من المستحيل مواكبة الإنحدار القيّمي والمعنوي قبل المادي لكلّ رموزها وعناوينها. في جريمة تفجير مرفأ بيروت، تساؤلات عديدة ومستهجنة يطرحها اللبنانيين بعد إعلان المحقق العدلي في القضية القاضي طارق البيطار عن ذهوله وهو يقرأ البيان الذي أصدره وزير الإقتصاد راوول نعمة،طالباً منه «إلغاء الأعمال الحربية والإرهابية من دائرة الأسباب التي أدّت  إلى تفجير مرفأ بيروت».فهل هذا هو مزيد من التمادي في مسلسل تحلّل القضاء،أم مشاركة في إجرام مستفحل وتستّر فاضح على الحقيقة، وتبرئة للقتلة تحت عنوان التعويض على المواطنين؟.  تساؤلات أخرى يطرحها اللبنانيون حول التعثّر والإرتباك ودفن الرأس في الرمال أمام تعديل المرسوم 6433 المتعلّق بترسيم الحدود البحرية مع سوريا وإسرائيل،بعدما أظهرت الدراسات الدولية المتخصّصة حقوقاً إضافية للبنان في الجنوب بما يتيح المزيد من الأوراق للمفاوض اللبناني. هذا المرسوم الذي تقاذفه وزراء الممانعة في الدفاع والأشغال العامة والنقل وتنصلت منه وزارة الطاقة، أصبح اليوم في عهدة رئيس الجمهورية وهو اختبار للقدرة على إخراج موضوع الغاز والنفط من البازار الإقليمي.ويضاف إلى ما سبقتساؤل عن الصمت لدى نفس الفريق،وعدم إتّخاذ أي إجراء يتيحه القانون الدولي لترسيم الحدود مع سوريا، وإظهار القدرة على التحرر من وصاية واضحة وتوجيه إنذار للشركات المكلّفة بالمسح شمالاً وجنوباً لوقف العمل في المناطق المتنازع عليها.

 

وفي هذا الإطار لا بدّ من التوقف حول ما نشره السفير (Fred Hoff) في مجلة

 

(Newlines Magazine) في عددها الصادر بتاريخ 4/7/2021، وهو ما يستدعي أكثر من تساؤل حول مآلات الإستسلام لعناوين الممانعة التي يرفعها حزب الله ومصيرالإصطفاف مع محور طهران دمشق والعداوات الإقليمية التي بُنيت عليه. يقول هوف:»من الأشياء التي لا تُنسى والتي اختبرتها خلال وساطتي بين سوريا وإسرائيل من أجل السلام قبل عقد من الزمن، كان الإستماع إلى الرئيس السوري، بشار الأسد، حول احتفاظ حزب الله بأسلحته بعد أيار / مايو 2000.يقول الرئيس الأسد «إنّ ادّعاء حزب الله بأنّ إسرائيل لا تزال تحتل أراضي لبنانية في «مزارع شبعا» و «تلال كفار شوبا»  كاذب. كان تفسير الأسد مباشراً: الأرض المعنيّة سورية.»

 

وأضاف هوف : «شاركني الأسد هذا الكشف المذهل خلال إجتماع اقتصر علينا في «قصر تشرين» في 28 فبراير 2011. إنّ الإستماع إلى هذا الادّعاء الإقليمي ــ الذي طالما تناولته الحكومة اللبنانية واعترفت به سوريا لفظياً-وتوصيفه بأنّه زائف لم يفاجئني على أقل تقدير، فقد كنت أعرف ذلك منذ ابتداعه في العام 2000، لكن ما صدمني عندما استمعت إلى الأسد كان في عدم تردّده في إخبار دبلوماسي أمريكي أنّ الأرض المعنيّة– وهي الأساس لمكانة حزب الله المزعومة «المقاومة اللبنانية» – لم تكن لبنانية بل سورية.» وأوضح الأسد : «أنه مقابل معاهدة سلام تلتزم باستعادة سوريا جميع الأراضي التي خسرتها خلال حرب حزيران / يونيو 1967، فإنه سينهي علاقة سوريا العسكرية مع إيران ويلزم لبنان بصنع السلام مع إسرائيل، وبالتالي يخرج حزب الله من أعمال المقاومة  تماماً.»

 

تتزامن هذه التساؤلات وهذا السقوط المريع لهيبة الحكم ومؤسسات السلطة مع دعوة تحالف حزب الله ورئيس الجمهورية وتياره لبنان إلى الإلتحاق شرقاً، فيما تقوم طهران وهي عرّاب هذا الخيار بالتفاوض غرباً حول خياراتها النووية وعقوباتها ومستقبل صواريخها. إنّ التمعّن في التفاوض الأميركي الإيراني بعيداً عن المزايدات والإستعراضات الإعلامية، في ضوء الهجمات الإسرائيلية المعلنة على المنشآت النووية الإيرانية، وآخرها وللمرة الثانية على منشأة «نطنز»، والتي سبقها الهجوم على السفينة الإيرانية في البحر الأحمر دون أي رد يذكر، يضفي المزيد من القلق حول مستقبل محور الممانعة المحكوم بمصالح مثلث واشنطن بكين موسكو، وحول الأثمان المتوجبة على الدول الملتحقة به.

 

في وسط هذا العالم الذي تغيّرت كلّ قواعده، ومع عودة صيغة التحالفات الإقليمية كنموذج جديد لمواجهة التّحديات في الغاز والأمن والمياه، لا يزال في لبنان من يصرّ على متابعة الإنحدار واستمرار النقاش العقيم حول صلاحيات الرئيس وحقوق الطوائف، أو من يعتقد أنّ الأمان الإجتماعي للمواطنين وتحريرهم من القهر والكبت السياسي يمكن تحقيقه بتقديم وجبات مدعومة، أو بتصوير أكداس المواد التموينية ومستوعبات الزيت في تعاونيات السجاد وسواها.

 

إنّ جمهورية لا تملك طموحاً أبعد من حقوق الطوائفوتكديس المواد التموينية ستستمربالإنحدار حتى بلوغ القعر…..