IMLebanon

خطاب بكركي ومعركة الإستقلال الثالث

 

وصيّة الـ 17 «لا» رسالة للمجتمع الدولي وخارطة طريق للقوى المجتمعيّة الحيّة

 

يحارُ المرءُ من أين يبدأ في توصيف جهنم الواقع اللبناني. لا يمكنُ إيجاد الكلماتِ المناسبة لوصف ما يحصل من فجور لا أخلاقيّ، وإمعانٍ في إهانةِ الشعب وسرقته وإذلالهِ من قبل منظومةٍ لا تبالي بارتكاباتها، فنحن اليوم أمام «حالة إنقلابية» بحسب توصيف البطريرك الماروني بشارة الراعي أمام حشود اللبنانيين الذي قصدوا بكركي يوم السبت الماضي لإسماع سيدها صرخة وجعهم.

 

خطاب تاريخي.. حدد الداء الدواء

 

في خطابه أمام ثوار لبنان، حدّد البطريرك الراعي ثوابت تصلح لأن تكون بنود برنامج إنقاذي متكامل، أقلّه للخروج من المأزق الراهن بعيداً عن تذاكي، أو تخابث من يعتبر أن الحديث عن مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة يمكن أن يقابل بالمطالبة بمؤتمر تأسيسي جديد. جدد الراعي التأكيد أن المطالبة بالحياد هو المدخل الطبيعي والضروري لإنقاذ لبنان من المأزق الذي رُمي فيه بسبب الشعبوية والانحياز لأجندة خارجية، فـ «خروج الدولة عن سياسة الحياد هو السبب الرئيسي للأزمات والحروب التي وقعت في لبنان وأثبتت التجارب بأنه في كل مرة انحاز أحد إلى محور اقليمي اندلعت الحروب وانقسم الشعب». أما المطالبة بمؤتمر دولي خاص فـ«لأن كل الحلول الأخرى وصلت الى حائط مسدود ولم نتمكن في ما بيننا من الاتفاق على مصير وطننا».

 

الخطير، والمهم في آن، قول الراعي أن «كلّ ما طُرح رُفض من أجل سقوط الدولة ولكي يتمّ الإستيلاء على السلطة، فنحن نواجه اليوم حالة إنقلابيّة بكلّ معنى الكلمة وعلى مختلف ميادين الحياة العامّة.. لبقاء الفوضى وسقوط الدولة والاستيلاء على مقاليد السلطة»، مذكراً بأن «الانقلاب الأول كان على وثيقة الوفاق الوطني».

 

كلام كبير وتاريخي ومهم، حدّد الداء علانية، ورسم خطوط الحل، أو بالحدّ الأدنى المدخل إليه، ولا يمكن لأي عاقل أو حريص على السلم الأهلي أو الاستقرار الوطني أن يرسم علامات استفهام على طرح سيّد بكركي، فهو لم يأتِ على ذكر «حقوق المسيحيين»، بل نادى بدولة مدنية، دولة المواطنة الحديثة التي ينتمي فيها المواطن الى وطنه وليس الى طوائف،وتحدّث عن فصل الدين عن الدولة، الى جانب ما نادى به من مطالب بسقف عالٍ لا يجرؤ أحد على طرحها خوفاً من التخوين والملاحقة وهدر الدم.

 

دقّ الراعي جرس إنذار للقوى الكبرى بأن «الكيان اللبناني مُعرّض جدّياً للخطر»، وتوجه إلى كل الداخل اللبناني بأن «تطوير النظام اللبناني لا يجوز ان يكون على حساب ما اتفقنا عليه، فالتطوير لا يعني النقض بل التحسين، وحقنا ان نعيش حياة كريمة في وطننا»..

 

هكذا كان كلام البطريرك بطريرك الكلام، كان الراعي أمس امتداداً لأسلافه الكبار الحويّك وعريضة وصفير في مواجهة الاحتلال والاستعمار والوصاية والهيمنة صوناً للبنان الدور والرسالة والكيان والميثاق، بدا كمن يعلن إطلاق معركة الاستقلال الثالث.

 

القوى المجتمعيّة والـ 17 «لا»

 

في وصيّة البطريرك الراعي لزواره الثوار وقد أسمعوه رأيهم بالمنظومة ورموزها، ما يمنح القوى المجتمعيّة الحيّة مزيداً من شرعية العمل والتحرك والمطالبة، وقد بدا أنه متماهياً مع كل خطاب التغيير والإنقاذ «لا تَسكُتوا عن تعدّدِ الولاءات، لا تَسكُتوا عن الفساد، لا تسكتوا عن سلب أموالكم، لا تَسكُتوا عن الحدودِ السائبة، لا تَسكُتوا عن خرقِ أجوائِنا، لا تَسكُتوا عن فشلِ الطبقةِ السياسيّة، لا تَسكُتوا عن الخِياراتِ الخاطئة والانحياز، لا تَسكُتوا عن فوضى التحقيقِ في جريمةِ المرفأ، لا تَسكُتوا عن تسييسِ القضاء، لا تَسكُتوا عن السلاحِ غير الشرعيِّ وغيرِ اللبنانيّ، لا تَسكُتوا عن سَجنِ الأبرياءِ وإطلاقِ المذنِبين، لا تَسكُتوا عن التوطين الفلسطيني ودمج النازحين، لا تَسكُتوا عن مصادرة القرار الوطني، لا تَسكتوا عن الانقلابِ على الدولةِ والنظام، لا تَسكُتوا عن عدمِ تأليفِ حكومة، لا تَسكُتوا على عدمِ إجراءِ الإصلاحات، ولا تَسكُتوا عن نسيان الشهداء. شهداؤنا ذخيرةُ وجودِنا الروحيِّ والوطنيّ. وويلٌ لمن يَنسى شهداءَه ويُقايض عليهم».

 

على من تقرأ مزاميرك؟

 

في مقابل مشهديّة بكركي، يحارُ المتابعُ من أن يبدأ في تحليل المشهد الداخلي القائم؛ من الكهرباء الغائبة الدائمة عن العاصمة والمدن الكبرى، خلا المحميات طبعاً، فضلاً عن القرى والأرياف، وقد صرف في ثقبها الأسود ما يزيد على المليار ونصف مليار دولار منذ استلم وزارتها تيار الإصلاح الشهير، أم من اللقاحات التي هرّبت وفقد نحو 30 بالمئة منها في دهاليز المحميات، أم من التلاعب بالقضاء والتضييق على الحريات وتوقيف الناشطين وتركيب الملفات لهم، أم من العزلة اللبنانية عن العالم الآخذة بالتوسّع والتعمق يوماً بعد آخر، أم من الكلام الشعبوي الذي يُنسب زوراً وبهتاناً إلى الدستور والمصلحة الوطنية، أم من السلع الحياتيّة والغذائية والأدوية التي وضعت المواطن بين نارين: نار الأسعار اللاهبة ونار الفقدان والاحتكار وطغيان السوق السوداء، أم من قتل ضحايا جريمة مرفأ بيروت مرة ثانية بتمييع التحقيق وترهيب القضاء..؟

 

ما كشف قبل أيام عن سرقة لقاحات «كورونا» من مستحقيها، وإعطائها تهريباً وخفيةّ في المقرات الرسمية لمسؤولين ونواب وكبار الموظفين، وفوق ذلك التباهي بهذه الفعلة المنحطّة، بل والتهكّم على المنظمات الدوليّة التي ما زالت تعطف على الشعب اللبناني، يكشف بوضوح حقيقة هذه المنظومة التي لم تبالِ للحظة لتحذيرات البنك الدولي من مغبّة الاستخدام الفاسد وذهنية الواسطة والمحسوبيات في موضوع اللقاحات.

 

قبل أيام أيضاً، توفي أحد مسعفي الصليب الأحمر، فادي أبو حسن، بعد إصابته بوباء كورونا، وللعلم فإن مسعفي الصليب الأحمر قاموا بأكثر من 20 ألف مهمة إسعاف لمصابي الوباء، لكن للمصادفة لم يتم تلقيح إلا 150 عنصراً من أصل 4000 عنصر حتى اليوم؟! في وقت كان وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال حمد حسن يبرر «تهريب» اللقاح للنواب بأنه «مكافأة» لهم على تشريع قانون استقدام اللقاح!! وكأنه يمنح من ماله الخاص؟ نعم، هذه هي نتيجة غياب المعايير والشفافية وعدم الجدية وسيادة ذهنية الواسطة والزبائنية، وفقدان الإحساس بالمسؤولية العامة.

 

مطلوب رجال دولة

 

هذا السلوك الدونيّ، من نكران الجميل وقلة الوفاء والتباهي بالفجور، هو الذي تسبّب قبلاً بإعراض دول عربية وأجنبية عن مساعدة لبنان، بماذا قابل هؤلاء عقوداً طويلة من وقوف الخليج إلى جانب لبنان غير التنكّر والتهكّم والأذى والشتم، ومجدداً سيدفع شعب لبنان ثمن ممارسات هذه المنظومة ونفاقها، كما يدفع ثمن فقدان رجال الدولة وحماة الدستور.

 

مجدداً، غبطة البطريرك، كلامك تاريخي في قوته وصلابته ورؤيويته ووطنيته، والمطلوب الذهاب إلى النهاية في تعرية المنظومة ووضع العالم أمام مسؤولياته، فاللحظات المصيرية لا يصنعها إلا قادة استثنائيون.