IMLebanon

بالأسماء.. جمعياتٌ يُتوهَّم أنّها غير وهميّة

 

تصف هنادي عملها الذي غادرته بعد أسبوع فقط من بدئه، بأنّه «أبشع تجربة مهنية» مرّت بها، كونه كان عبارة عن متاجرة بمعاناة الأطفال لتحقيق الربح غير المشروع… في جمعيةٍ يصعب عليها تذكّر اسمها بشكل دقيق، كون الحادثة وقعت قبل سنوات، لكن تتذكّر جيداً أنّها تحمل اسماً دينياً روحياً. كانت هنادي تجلس الى جانب إحداهن في غرفة داخل شقة سكنية في سدّ البوشرية تداومان على الاتصال بالمواطنين، بالاعتماد على لوائح بأرقام هواتف تترأسها أرقام مشاهير وسياسيين ورجال أعمال لطلب المساعدة للجمعية، التي تدّعي أنها تُعنى بأطفال من ذوي الإعاقة…أطفال لم ترهم هنادي يوماً، وكانت كلّما سألت عنهم، يضحك من عيّن نفسه مديراً للجمعية ويقول لها «أيّا ولاد»، لحين اكتشافها الحقيقة.

 

هذه الجمعية وغيرها… تجعل المعاناة التي ابتلي بها البعض، جسر عبور لتحصيل الأموال، وأحياناً عبر عقود مشبوهة تشرّع بطريقة غير مباشرة هذه المتاجرة وتكون شريكة معها بطبيعة الحال.

 

198 جمعية

تكلّف الجمعيات المتعاقدة مع وزارة الشؤون الاجتماعية وعددها 198 جمعية، 13 مليار ليرة سنوياً بحسب آخر إحصاء صادر عن الدولية للمعلومات، تمّ تخفيضها الى ما يقارب الـ11 ملياراً أخيراً، وتتوزع على الجمعيات الموزعة بدورها على المناطق اللبنانية المختلفة بمعدل يتراوح بين 10 و100 مليون ليرة لبنانية.

 

وتستمر وزارة الشؤون الاجتماعية باعتماد السياسة نفسها في التعاقد مع الجمعيات الأهلية والهيئات الدينية بمعزل عن الانتماء السياسي أو الطائفي للوزير، وهي خطة لا يحيد عنها أي وزير بالرغم من إبداء الملاحظات على عمل هذه الجمعيات وفعاليتها ما يسبّب هدراً للمال العام.

 

ولا تشهد هذه العقود تعديلات جوهرية تُذكر بحسب متابعة جداولها، بل “تتكاثر” بشكل طفيلي عاماً بعد عام، وتطور عددها من 85 جمعية في العام 2015 إلى 198 جمعية في العام المنصرم. وهي لا تخضع للرقابة الدورية، “فحجّة وزارة الشؤون التي تعاقب عليها الوزراء من كافة الانتماءات والطوائف، أنها توقّع على عقود سبق ونظرَ فيها ديوان المحاسبة، تشمل عقود إيجار، كشوفات مالية، ورُخص لدور حضانة أو مسنين، أو لمستوصفات، إلّا أنّ ديوان المحاسبة ليس لديه القدرة ولا يريد حتى أن يراقب هذه الجمعيات بعددها الكبير ميدانياً على الأرض، لأنّ معظمها تنفيعات سياسية وطائفية”، بحسب ما ينقل مصدر مطلع على واقع هذه الجمعيات لـ”الجمهورية”.

 

“لكن الأوراق سابقة الذكر يمكن تحصيلها بسهولة، من دون وجود جمعية حقيقية بنشاط فعلي”، تبعاً للمصدر نفسه، ما يجعل هامش الخداع كبيراً “يرتفع معه المبلغ ويتقلّص تبعاً لسلطة المنتفع” بحسب المصدر.

 

تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الجمعيات تختلف عن الجمعيات الاهلية الكبيرة التي تهتم برعاية الايتام وتأهيل المعوقين والأحداث المعرّضين للخطر، وهي العقود التي بلغت بحسب الإحصاء نفسه من الدولية للمعلومات 610 عقود يستفيد منها 175,265شخصاً بكلفة 165 مليار ليرة.

 

“كبْسات” من الوزارة

ترفض مصادر “الشؤون الاجتماعية” التصريح عن أسماء الجمعيات الـ20 التي تمّ إلغاء العقود المشتركة معها كونها لم تلتزم الشروط والانشطة المطلوبة منها، أو الاخرى التي تمّ توجيه إنذارات لها “لتفعيل انشطتها ضمن ما هو منصوص عنه في العقود المشتركة تحت طائلة إلغاء هذه العقود في نهاية عام 2019”. وتكتفي بالكشف عن القيام بزيارات استطلاعية أو “كبْسات” كما سمّتها المصادر، على عدد من الجمعيات، والتحرّي عن نشاطاتها لقطع الشك باليقين، من دون أي تفاصيلٍ أخرى.

 

“الجمهورية” أخذت المبادرة وقررت الاستطلاع على طريقتها، وكانت البداية من حمل أسماء عينة عشوائية من الجمعيات غير المألوفة على السمع، والتحرّي عنها عبر محرّك البحث “غوغل” ومواقع التواصل الاجتماعي، كثيرٌ من الجمعيات لم يسمع بها “غوغل” ولم تمرّ من جنبها مواقع التواصل، ما جعل منها هدفاً للبحث أكثر وأكثر.

 

لا نادٍ ولا مسنين

على سبيل المثال لا الحصر، تفاجأنا على الورق بوجود نادٍ للمسنين تابع للأبرشية البطريركية المارونية، نيابة صربا، يتقاضى سنوياً 8 ملايين ليرة من وزارة الشؤون. لم تجد الأبحاث الالكترونية نفعاً، فاتصلنا بأبرشية نيابة صربا، مدّعين أن لدينا مسنّاً في حاجة للإعالة، فبادر أحد موظفيها لإبداء النصيحة لنا بالتوجّه لدير مار مخايل في سهيلة.

 

عند الاتصال بالدير وطلب الرقم صفر للمساعدة ردّت سكرتيرة الدير، أخذت بعض التفاصيل السطحية عن المسنّ، وأبلغتنا أن في سهيلة يوجد دار راحة ومأوى للمسنين، فادّعينا مجدداً أننا نسكن في محيط صربا ونبحث عن نادٍ للمسنين في هذه المنطقة، فكان الجواب أنّ “المنطقة كلها لا يوجد فيها دار للمسنين”، وهو الأمر الذي أكّد عليه في الدير نفسه الأب “ن.ش”، ونصحنا بمعاودة الاتصال بالرعية في صربا.

 

اتصلنا بالرعية فكان جواب أحد الموظفين هناك متقاطعاً مع الأجوبة السابقة “أنا إلي عمر بشتغل هون، لا يوجد مأوى ولا نادٍ للمسنين في صربا”.

 

جمعية “مجهولة الهوية”

أيضاً، “رفيقنا” في البحث “غوغل” لا يعترف باسم “جمعية البشرى الخيرية للإنماء” وهي عبارة عن مركز خدمات اجتماعية بحسب العقود تتقاضى 13 مليون ليرة سنوياً، إلّا عبر العلم والخبر الخاص بها، والذي يخبرنا بمكان مركزها في الهرمل – حيّ المعالّي، ويخبرنا عن مهامها التي تبدأ بمساعدة العائلات الفقيرة والمرضى والمعوقين جسدياً وذوي الحاجات الخاصة وصعوبات النطق والأيتام ورعايتهم وإعانتهم وتأمين مستلزمات الحياة الكريمة، ولا تنتهي عند التعاون مع الجمعيات والمنظمات الأهلية والمدنية المحلية والدولية… كما يفيدنا برقم العقار 5231 الذي تقوم عليه الجمعية، وهو ملك علي عبد الأمير جانبيه، بتأسيس عددٍ من الأشخاص بينهم ممثل الجمعية تجاه الحكومة المدعو (أ.ع)، وهو بحسب المعلومات مدير إحدى المدارس في المنطقة نفسها (الهرمل) يقوم بتغيير مكان واسم مدرسته بشكل دوري من وقت لآخر لأسباب غير معروفة.

 

حملت “الجمهورية” اسم الجمعية، قصدت الحيّ المذكور، وبحثت عن الجمعية، فكان سكان الحيّ يضحكون عندما يسمعون باسمها، ويعقّبون على السؤال بقولهم: “هيدي بالهرمل… ايه بتكون وهمية”. لم نترك زاوية من الحي ولا دُكاناً ولا مطعماً ولا حتى مارّاً، لكن دون جدوى، فلا شيء يدل الى وجود جمعية بهذا الاسم، ولا حتّى لافتة قديمة تفيد بوجود جمعيةً.

 

بعد أكثر من ساعتين وصلنا الى صاحب “دُكّان” في آخر الحيّ من عائلة جانبيه (عائلة صاحب العقار نفسه)، قفزت سنوات عمره فوق السبعين، سألناه عن صاحب العقار، خانته ذاكرته في التعرّف اليه، فاستعان بمن سمّاه “مختار العيلة” ليتبين أنّ الرجل (صاحب العقار) معروفٌ بلقبه أكثر من اسمه الثنائي، فأرشدَنا إلى حي آل جانبيه في البيادر – الهرمل حيث منزل “أبو حيدر” أي علي عبد الأمير جانبيه .

قصدنا منزل الأخير، رجلٌ ثمانينيّ، أكّد لنا أن لا جمعية بهذا الاسم في العقار الخاص به في حيّ المعالّي، وعند طرح اسم ممثل الجمعية لدى الحكومة أمامه

 

تذكّر أنه قام بتأجير عقاره لهذا الشخص قبل سنواتٍ لم يستطِع تحديد عددها واكتفى بالقول: “من زمان كتـيـر ما بتذكر من أيمتى”.

 

تضع “الجمهورية” هذه المعطيات برسم المعنيين، مع الإشارة إلى أننا لسنا بمعرض اتهام هذه الجمعيات أو استهداف أصحابها، بقدر ما نقلنا مشاهدات وآراء عامة تثير الشبهات حولها… وما على الجهات المعنية إلّا التحقّق من وضعها وإعادة النظر في عقودها، ونحن ما علينا… إلا البلاغ!