IMLebanon

«قيصر» يسقط جسر طهران – بيروت

 

الهدف الأساس الذي وضعته واشنطن في مواجهة طهران يكمن في لجم دورها في المنطقة في موازاة الملف النووي، وقد تنوّعت الخطط في تنفيذ هذا الهدف بين 3 اتجاهات – مراحل حكمت تعاطيها في هذا الملف.

تنقلّت واشنطن في مواجهة الدور الإيراني بين مواجهة الأذرع الإيرانية في مرحلة أولى من أجل إسقاطها ووضع طهران أمام الأمر الواقع الذي يجعلها تسلِّم تلقائيّاً بتعديل دورها، وبين محاصرتها في مرحلة ثانية، أي محاصرة المركز الذي بمجرّد تنازله وقبوله بالشروط الدولية تسقط الأذرع تلقائياً وتدخل في تسويات في الدولة الموجودة فيها، وبين المزاوجة، في المرحلة الثالثة، أي في المرحلة الحالية، بين الضغط على المركز والأذرع معاً.

 

ففي موازاة الضغط على إيران الذي يشتد ويتصاعد بغية دفعها إلى التسليم بالشروط الدولية، عملت واشنطن على مواجهة الأذرع الإيرانية في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، فلجَمت الدور الحوثي، وتقاسمت النفوذ مع طهران في بغداد، فلم تعد طليقة اليدين، وأصدرت قانون “قيصر” لوضع الورقة السورية في عهدتها، وتخلّت عن نظرية منع لبنان من السقوط، فربطت المساعدات بالإصلاحات، ما شَكّل أكبر ورقة ضغط على “حزب الله” وكل من يدور في فلكه.

 

وقبل قانون “قيصر” كانت مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا تقتصر على فتح المجال الجوي السوري أمام تل أبيب لاستهداف كل ما تراه يشكل خطراً تسلحيّاً استراتيجيّاً، كما تمّ إبعادها عن الجولان بتفاهم مثلّث بين الإميركيين والروس والإسرائيليين، ولكن موسكو احتفظت بهامش تحرُّك سياسي واسع، وحافظت إيران على دورها ونفوذها والأهم الخط الاستراتيجي الذي يربط طهران ببيروت.

 

ومع قانون “قيصر” أضحت الورقة السورية في واشنطن بشكل كامل، فلم يعد بالإمكان الكلام عن إعادة إعمار او عودة النازحين أو إبقاء النظام السوري على قيد الحياة مع الحصار الاقتصادي المُحكم الذي سيعيد تجديد الثورة السورية، ويؤدي إلى انهيار الوضع السوري من الباب المالي، ويفتح باب التفاوض الروسي-الأميركي على رأس الأسد تمهيداً لتغييره بشروط أميركية.

 

وبعد أن رأت واشنطن أن لا قدرة للعرب على قيادة مواجهات عسكرية مع إيران وأذرعها في المنطقة، وبما ان لا نية لديها لإنزال عسكرها في مواجهة مباشرة، لجأت إلى السلاح الاقتصادي الذي تعتبره الأمضى وبمثابة السلاح النووي الذي استخدم في الحرب العالمية الثانية، فيما نَوَويّ المرحلة الحالية هو الحصار المالي والاقتصادي.

 

وقد ساهم أداء الأذرع الإيرانية في تقديم هدية ذهبية للسياسة الأميركية، حيث انّ الفشل المريب والرهيب في إدارة دولة نفطية مثل العراق أدى إلى انهيارها واندلاع ثورة في أرجائها، ما عزّز الموقف والدور الأميركيين في العراق، كما انّ سقوط لبنان لم يحصل بقرار أميركي، بل حصل بسبب سوء الإدارة المخيف من قبل “حزب الله” وحلفائه، ما جعل طريق خروج لبنان من الانهيار يمر عبر واشنطن.

 

فمحور الممانعة في وضع غير مسبوق بتاريخه، حيث انّ سباق السقوط يحصل على قدم وساق بين المركز والأذرع، وكل المنظومة العسكرية والصاروخية أصبحت بلا فائدة وخارج الخدمة، والرهان على الانتخابات الأميركية هو آخر “خرطوشة” لهذا المحور على رغم انه رهان في غير محله، لأنّ أي إدارة أميركية لن تعيد النظر بالاستراتيجية المتّبعة حيال الدور الإيراني انطلاقاً من مصالحها مع إسرائيل والعرب، وبالتالي ما أوصلت إليه الأمور الإدارة الترامبية سيتواصل ولن يتم التراجع عنه.

 

والوضع السوري سيكون مختلفاً عن العراق ولبنان، فإذا كان هناك من تقاسم نفوذ أميركي-إيراني في بغداد على قاعدة قيام دولة عراقية لا تأثير فيها لـ”الحشد الشعبي” الذي يشكّل فصيلاً من “الحرس الثوري”، وإذا كان النفوذ الإيراني سيستمر في لبنان عن طريق “حزب الله”، إنما نفوذ من طبيعة سياسية وليس عسكرية وأمنية، ففي سوريا سيكون تقاسم النفوذ بين الأميركيين والروس مقابل إخراج النفوذ الإيراني بشكل كامل، وذلك ضمن استراتيجية واضحة المعالم تقضي بإسقاط الجسر الذي يربط طهران ببيروت من أجل إضعاف حتى تأثير النفوذ السياسي لإيران، بما يضمن التوازنات في المنطقة، والحد من الدور الإيراني.

 

وستجد إيران نفسها قريباً أمام خيار من اثنين: إمّا سقوط أذرعها الواحدة تلو الأخرى، وبالتالي خسارة أوراقها التفاوضية التي تجعلها في موقع تفاوضي أضعف، ودفعها إلى التفاوض حصراً حول وضعها ونظامها، أي انكفائها إلى الداخل الإيراني، وإمّا ان تُسرع إلى طلب التفاوض مع واشنطن قبل فوات الأوان وخسارة كل أوراقها، فوضعها اليوم أفضل من وضعها غداً، وما يمكن ان تحصل عليه اليوم من نفوذ ضمن ترتيب إقليمي لن تحصل عليه في المستقبل.

 

ولا يجب إسقاط احتمال ان ترفض واشنطن طلب إيران للتفاوض مع سقوط الأوراق الإيرانية تباعاً، وبالتالي لا تجد حاجة لتفاوض من هذا النوع طالما انّ الأذرع الإيرانية تهاوَت بشكل تلقائي، ولن يكون حصول التفاوض مدخلاً لمقايضات، إنما من أجل إخراج الدول المأزومة بفعل الدور الإيراني من عدم الاستقرار إلى الاستقرار.

 

ولم تعد الحروب طبعاً تشكّل فرصة للهروب إلى الأمام كما حصل مثلاً في حرب تموز 2006 وقلبَ الأوضاع وخلطَ الأوراق، إنما أيّ حرب تفتعلها الأذرع الإيرانية ستسرِّع ليس فقط في إنهاء هذه الأذرع بالضربة القاضية، بل في مزيد من إضعاف دورها السياسي مستقبلاً.

 

وفي كل هذا المشهد يواصل لبنان انحداره من السيئ إلى الأسوأ، ولا مقوّمات او فرص للإنقاذ سوى بحكومة جديدة لمرحلة انتقالية لا تأثير فيها لفريق 8 آذار، بما يشكّل مدخلاً للإنقاذ الاقتصادي أولاً، ويمهِّد لتسوية جديدة ثانياً تعيد الاعتبار للدولة والدستور، وكل ما هو خلاف ذلك يعني مواصلة لبنان انزلاقه نحو الفوضى والمجهول، وأي محاولة لتبرُّع البعض بأدوار حكومية-سياسية في خدمة فريق 8 آذار وشروطه تحت عنوان تجنيب لبنان الفوضى، سترتد سلباً عليهم وعلى لبنان، لأنّ طبيعة المرحلة دولياً ومحلياً اختلفت عن السابق، ومن أوصَل البلد إلى الانهيار يجب كَفّ يده كمدخل للخروج من هذا الانهيار في ظل فرصة حقيقية لإعادة الاعتبار للدولة المغيّبة منذ العام 1969، واستطراداً 1975.