IMLebanon

قبل التصويت على قانون الـCapital Control: أسئلة في مرمى حركة الرساميل

 

 

صحيح أنّ وضع الأطر الناظمة لحركة الرساميل في لبنان كان يفترض أن يُبحث منذ انفجار الأزمة المالية-النقدية-المصرفية ولجوء المصارف الى الإقفال بعد 17 تشرين الأول 2019 وبدء القرارات الأحادية وغير المتجانسة بين المودعين في المصرف الواحد وبين المودعين والمقترضين بين مصرف وآخر، الّا أنّ تمادي الفوضى لا يلغي ضرورة التنظيم والمساواة ولو بعد حين. اليوم لم يعد من مفرّ لتقديم رؤيا موحّدة لضبط التعامل بين المصارف والمتعاملين معها في الداخل والخارج، لاسيما لتأمين ما يمكن أن يتبقّى من مساواة في المعاملات المصرفية من جهة، ولإقناع المجتمع الدولي بالنية بوقف الفوضى والاستنسابية وجدّية القرار، بالسعي لانتظام الخطوات للخروج من الأزمة واستعادة الثقة، بدءاً من تنظيم التعامل مع حركة الرساميل. فماذا تعني أساساً حركة الرساميل في علم الاقتصاد لبلد صغير منفتح كما هي حال لبنان؟ وما أبرز أسئلة يطرحها المعنيون بخصوص الاقتراح الحالي للـcapital control في لبنان قبل التصويت عليه في مجلس النواب؟

في سياق حركة العملات الأجنبية والسياسات النقدية والمالية المستقلة، يمثل تدفق رأس المال المستمر تحدياً ثلاثي الأبعاد لبلد صغير:

 

أولاً، خطر أزمة ميزان المدفوعات عندما ترتفع نسبة الدين الخارجي بالنسبة للاقتصاد الوطني.
هذا تحدٍ طويل الأجل يعتمد على افتراض انّ رأس المال الخارجي الذي يتمّ اقتراضه سوف يُستثمر في صناعات السلع القابلة للتداول، بحيث تكون القدرة على التصدير أو استبدال الواردات من البلد المعني كافية لتعويض كل من مبالغة في تقييم سعر الصرف، وبغية التمكّن من إعادة الفوائد وأرباح الأسهم.
ثانياً، خطر أزمة السيولة وأزمة سعر الصرف عند تزايد الدين بالعملات الأجنبية قصير الأجل نسبة إلى الأصول الأجنبية السائلة.
ثالثاً، خطر حدوث أزمة مصرفية محلية عندما يتعلق الأمر بالمصارف المحلية التي اقترضت بالعملات الأجنبية للإقراض بالعملات المحلية أو القبول باستعادة القروض بالعملة المحلية، بعد أن كانت منحتها بالعملات الأجنبية لعملائها (تماماً مثلما يحصل حتى اليوم في لبنان في الفوضى الحاصلة في استعادة المصارف لتوظيفاتها بالعملات الأجنبية، بغية التمكّن من إيفاء الودائع بنفس العملات الأجنبية لزبائنها) مما يؤثر على ملاءة المصارف المحلية ويتسبّب بانهيار سعر الصرف.
في الواقع، يمكن أن تهيمن تدفقات رأس المال الداخلة والخارجة في المدى القصير على سعر الصرف: إذا كان الأخير ثابتاً، فإنّ الدولة تخاطر بنفاد الاحتياطيات بالعملات الأجنبية، كما حصل تماماً من قِبل المصرف المركزي في إطار تنفيذه لخيار التمسّك بالمحافظة على سعر الصرف الرسمي حتى بعد استنزاف الاحتياطي بالعملات الأجنبية، لاسيما مع سياسة دعم استيراد المنتجات التي اختارتها السلطات الرسمية في السنتين الأخيرتين بعد انفجار الأزمة، وطيلة سنوات قبل ذلك، من خلال الضغط على تحقيق «ثالوث مستحيل» في علم الإقتصاد، وهو محاولة الاحتفاظ بتثبيت سعر صرف الليرة في ظلّ نظام حرية انتقال الرساميل والسعي لتطبيق «إستقلالية المصرف المركزي» وفق قانون النقد والتسليف، وهو ما كان مستحيلاً بوجود العاملين السابق ذكرهما في الوقت عينه.

فالمعروف أنّ في ظلّ حرية حركة الرساميل التي كان يضمنها نظام الاقتصاد الحر المنفتح في لبنان، من الضروري الاختيار بين التضحية بثبات سعر الصرف والإبقاء على مرونته، لترك هامش تحرّك للمصرف المركزي لاعتماد الاستقلالية في تحديد وتنفيذ سياسته النقدية الهادفة الى المحافظة على القدرة الشرائية للعملة الوطنية ومكافحة التضخّم وإدارة السيولة في السوق، أو القيام بالعكس تماماً، أي التضحية باسقلالية المصرف المركزي عبر توجيه خياراته للحفاظ على تثبيت سعر الصرف عبر ربط سعر صرف العملة الوطنية بالعملة الأجنبية الأكثر تداولاً واستقراراً وتعاملاً دولياً وهي الدولار الأميركي، خصوصاً بعد اعتماده كعملة ثانية إلى جانب الليرة اللبنانية منذ الأزمة النقدية التي عرفها لبنان في الثمانينات، والتي أطلقت على إثرها مسار دولرة مرتفعة غير رسمية ولكنها «مفروضة» من قِبل القطاع الخاص كأمر واقع منذ ذلك الحين، بغرض الهروب من خطر تقلّبات سعر الصرف وافتقاد العملة الوطنية لمهامها الأساسية في الثمانينات كأداة تسعير وتسديد للعمليات الشرائية الكبرى والمحافظة على القدرة الشرائية على المدى البعيد وصعوبة استعادة الثقة منذ ذلك الحين، على الرغم من جهود وكلفة تثبيت سعر الصرف على مدى 22 عاماً. علماً أنّه الخيار الأكثر فعالية لتحقيق الاستقرار النقدي في ظل اقتصاد مدولر كما هي الحال في لبنان، حيث لا نفع من الاكتفاء بإدارة السيولة بالليرة اللبنانية طالما الحصة الأكبر من السيولة المتداولة في السوق هي بالدولار الأميركي. إلّا أنّ التحسينات التي كانت ممكنة ومطلوبة كانت تكمن في معدّل سعر الصرف المناسب لعملية الربط بين العملتين وفق تطوّر المؤشرات الماكرو-إقتصادية، خصوصاً منها ميزان المدفوعات، الذي يظهّر رصيد دخول وخروج العملات الأجنبية لمختلف الأسباب بين لبنان والخارج، فضلاً عن سعر هامش تحرّك سعر الصرف ومرونة تدخّل المصرف المركزي في المحافظة عليه، بما يحفظه ضمن مستوى مقبول دون استنزاف كبير متواصل للاحتياطي بالعملات الأجنبية.

تدفق رأس المال، عن طريق خلق طلب زائد على النقد الوطني، يؤدي تلقائياً إلى ارتفاع قيمة العملة الوطنية، ما لم يخزّن البنك المركزي جميع التدفقات الواردة في احتياطياته بالعملات الأجنبية. لبعض الوقت، المبالغة في تقييم العملة تحافظ على أسعار السلع المستوردة منخفضة، بينما في ارتفاع الأسعار يتمّ تعويض سلع التصدير من الاستثمارات الممولة من القروض الخارجية.

قبل زيادة إنتاجية البلاد وقدرتها على التصدير واستقطاب الاستثمار والتوظيفات الخارجية، غالباً ما يظهر سعر الصرف مبالغاً فيه، تماماً كما شهده لبنان، لاسيما مع تراكم عجوزات ميزان المدفوعات منذ العام 2011 في لبنان، باستثناء سنوات الهندسات المالية عامي 2016 و2017 التي استقطبت بعض الرساميل من الخارج لشراء الأوروبوند وشهادات إيداع المصرف المركزي بالعملات الأجنبية أي لإقراض القطاع العام (بين خزينة الدولة ومصرفها المركزي). الأمر الذي يؤدي تلقائياً الى ارتفاع الدين الخارجي الصافي بالعملات الأجنبية بالنسبة للاقتصاد المحلي (الناتج المحلي الإجمالي).

وبالتالي، لحظة حدوث أي خطأ في السياسات، والتوجّه المفرط لرأس المال المقترض نحو السلع غير القابلة للتداول، والمبالغة في التقييم المفرط للعملة والعجز الكبير في الحساب الجاري، في سياق ضعف في الاحتياطيات بالنسبة للديون الخارجية قصيرة الأجل، لا بدّ أن يُترجم ذلك بخطر إثارة أزمة ثقة في البلاد، وخروج جماعي مفاجئ وهائل للرساميل وانهيار سعر الصرف.

وبالتالي، فإنّ المصطلح العام للأزمة المالية يجمع هذه الأنواع الثلاثة للأزمات: أي أزمة ميزان المدفوعات، وأزمة السيولة ومعدل سعر صرف العملة، والأزمة المصرفية المحلية.

هذه الأزمات لها آثار مدمّرة على اقتصادات البلدان، منذ انهيار العملة الوطنية على أسواق الصرف، مصحوبة بظاهرتين انكماشيتين، هما الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة الذي يثبط الاستثمار وزيادة الديون الخارجية المقومة بالعملات الأجنبية، مما يهدّد الميزانيات العمومية للمصارف والشركات. هذه الآثار الإنكماشية الناجمة عن الأزمات المالية والنقدية تكون من الضخامة، بحيث تلغي أو حتى قد تفوق الآثار المفيدة لدخول رأس المال الأجنبي على شكل ديون والتزامات.

من هنا، ولتجنّب الأزمات المالية والنقدية، فإنّ حرية التنقّل الدولي المجاني لرأس المال تتطلب نظرياً ظروف استقرار مماثلة لتلك الموجودة داخل البلدان التي تعتمده، وهذه أبرز الشروط الأربعة منها:

1- الدولة أو المنطقة التي ترفع جميع القيود عن حركة رأس المال يجب أن تكون لها عملة مشتركة مع شركائها أو، في حالة اعتماد عملة مستقلة، يجب أن يكون لها سعر صرف ثابت لا رجعة فيه، مما يؤثر طبعاً على استقلالية السياسة النقدية للمصرف المركزي. هذا الأمر يتطلّب اعتماد معدل تضخم مماثل لمعدل الشركاء، وكذلك معدلات فائدة مماثلة، بمجرد تعديلها وفقًا للمخاطر.

2- بغية تعديل موازين المدفوعات الإقليمية أو الوطنية بشكل سلس، من الضروري اللجوء إلى نظام مصرفي متعدّد الفروع.
في هذه الحالة، يمكن للبلد الذي يفتقد للرساميل طويلة الأجل الاقتراض لأجل قصير، فتكون المراكز الرئيسية للمصارف الملاذ الأخير للفروع التي تحتاج للسيولة. بالنسبة لبلد مستقّل هذا يعني السماح لفروع مصارف أجنبية بالعمل داخل حدوده.
3- في حال عدم المشاركة في نظام مصرفي متعدّد الفروع والأقاليم، يجب أن تتمتع المنطقة أو البلد بإمكانية الوصول إلى سوق المال، سيولة عالية يوماً بعد يوم، مما يمكّن المصارف في المناطق التي تتمتّع بفوائض، من تأمين إقراض قصير الأجل للمصارف الواقعة في مناطق العجز.
4- ملاءة وسيولة النظام النقدي والمالي تتطلّبان وجود مقرض الملاذ الأخير الرسمي وضمانات حكومية معينة. قبل وجود المصارف المركزية الوطنية وضمانات الحكومات لسلامة أنظمتها المصرفية، كانت تتكاثر أزمات «التهافت على المصارف» بشكل دوري، مما يعني أنّ وجود الأنظمة الصادرة عن السلطات الرسمية يفترض أن تكون الملاذ الأخير لطمأنة العملاء الاقتصاديين وتأمين الثقة في علاقة المصارف مع مختلف المتعاملين معها، وبالتالي تقديم الإطار الضابط للفوضى بعد الأزمات، ومنها اعتماد قوانين تحدّ مرحلياً من حركة الرساميل.

وعلى الرغم من أهمية إقرار قانون تقييد حركة الرساميل مرحلياً ولو بشكل متأخّر في لبنان، إلّا أنّ الصيغة المطروحة للتصويت وفق ما تمّ تداوله، تحمل الكثير من الأسئلة والملاحظات التي تحتاج لتوضيحات من قِبل المعنيين قبل إقراره، ومن أبرزها:

1- من الإيجابي ان تكون الأموال الجديدة بالعملات الأجنبية محرّرة من القيود. ولكن لماذا لا يتمّ تصنيف الأموال الناتجة من الصادرات على أنّها جديدة؟ انّه امر ضروري لتشجيع المنتجين المصدّرين على إدخالها إلى لبنان، والّا نكون ندفعهم الى إبقائها خارج البلاد ونمنعهم من مشاركة جزء منها مع أفرقاء الإنتاج، أي عمالهم، على شكل جزء من الرواتب أو مساعدات مثلاً…
2- بالنسبة للتجار المستوردين، كيف يمكن حصر خروج العملات الأجنبية فقط لاستيراد المواد الغذائية والدواء والمواد الأولية. كيف سيتمّ إذاً استيراد الملبوسات والالكترونيات وغيرها من المنتجات المستوردة المطلوبة في السوق اللبناني؟
3- لماذا يُحظّر على المصارف فتح حسابات مصرفية جديدة كما يُحظّر عليها إضافة شركاء إلى حسابات قائمة، كما يُحظّر تفعيل الحسابات الراكدة؟ أليس بالإمكان وضع سقف سحوبات مشترك الحساب، بغض النظر عن الشركاء فيه بدل منع إضافة شركاء؟
4- كيف يمكن تحديد سقف السحب بـ1000 دولار او ما يوازيه بالشهر، مع كل ارتفاع غلاء المعيشة واختلاف نمط العيش بين الفئات الاجتماعية؟ أليس من الأفضل أن يكون تحديد السقف وفق شرائح مستوى الودائع والمداخيل؟

5- هل سقف السحوبات 0100 دولار او ما يوازيه محدّد لكل مواطن من مجموع حساباته في مختلف المصارف او من كل حساب له في كل مصرف في حال تعدّد حساباته وتوزيعها بين مصارف عدة؟
يبقى القول، إنّ الأسئلة كثيرة وهامش الوقت يضيق، ومن الطبيعي أن يكون إقرار قانون ضبط حركة الرساميل ملحّاً، لاسيما في ظلّ الفوضى والاستنسابية في التعاطي مع الأزمة المصرفية. إلّا أنّه على قدر ما هو مهمّ إقرار القانون وانتظام العمل مع مختلف جوانب القضايا، على قدر ما هو مهمّ طمأنة الناس إلى معانيه ومفاعيله، البت بأي تعديلات ضرورية وإضافة الإيضاحات اللازمة وشرح أدق التفاصيل تفادياً لفوضى التطبيق وتحقيقاً للهدف الأساسي وهو استعادة الثقة.