بات من المستغرب جداً صمت لجنة الإشراف على تنفيذ وقف إطلاق النار في الجنوب، على استمرار الاحتلال الإسرائيلي وإمعانه في ارتكاب جرائم الاغتيال والخطف وتدمير ما بقي من منازل ومنشآت في قرى الحد الأمامي الجنوبية والمماطلة في الانسحاب منها بحجج واهية، ومنع الأهالي في القرى نصف المحررة من العودة إليها، تارة بحجّة تأخّر الجيش اللبناني في الانتشار مع ان قوات الاحتلال تمنع انتشاره وتقفل طرقات القرى أمامه بالعوائق وتستمر بالتمركز في الأماكن التي يفترض أن يدخلها الجيش حسب خطة الانسحاب والانتشار. وتارة أخرى بحجة «استمرار وجود عناصر حزب الله في جنوبي الليطاني ومنعه من استعادة قوته وتسليحه»!
والمستغرب أكثر تجاهل الدولتين عضوي لجنة الإشراف فرنسا والولايات المتحدة الأميركية التي ترأس اللجنة، لكل هذه الارتكابات، وكأنهما تعطيا الاحتلال كل الفرص المتاحة خلال فترة انتهاء مهلة تنفيذ الاتفاق الممددة حتى 18 شباط الحالي، لجعل منطقة الشريط الحدودي الجنوبي منطقة غير قابلة للحياة عبر تدمير كل شيء فيها حتى المساجد والكنائس والمراكز الصحية والمدارس ومنشآت المياه والكهرباء.
ما زال أمام الاحتلال فترة أسبوعين لإتمام مهمته التدميرية وقتل كل أوجه الحياة. فعدا قتل البشر وتدمير الحجر، ثمة مترتبات أخرى على هذا العدوان المتمادي، ليس أقلّها زيادة كلفة إعادة الاعمار على لبنان وبالتالي على الدول التي تعهدت بالمساهمة في الاعمار، وحسب المعلومات والاحصاءات التي تقوم بها الجهات المعنية، فقد ازدادت نسبة الدمار في الجنوب خلال فترة الشهرين لتنفيذ الانسحاب الإسرائيلي أكثر من 60 في المئة وستزداد أكثر خلال المهلة الممدّدة، وهو عبء لا تستطيع الدولة اللبنانية تحمّله ويشكّل عنصراً كبيراً وخطيراً ضاغطاً عليها، وسيواجه العهد الجديد وحكومته الجديدة أزمة كبرى لا حل لها في المديين القريب والبعيد من دون مشروع إعماري عربي – ودولي ضخم يعيد بناء ما هدّمه الاحتلال، ودفع التعويضات للأهالي المتضررين ولذوي شهداء العدوان من المدنيين. فهل تستجيب الدول المانحة الشقيقة والصديقة والراعية لإتفاق وقف إطلاق النار أم تسحب يدها، لا سيما مع إنشغال دول كثيرة عربية وغربية بتطبيع العلاقة مع النظام الجديد في سوريا والتعهد له بإعادة الاعمار؟
يبدو من خلال ضغوط الإدارة الأميركية الجديدة ومن بعض الدول الأخرى، ان أي قرشا أو فلسا أو سنتا سيتم دفعه، سيكون مرتبطاً بمطالب – حتى لا نقول شروط – سياسية وأمنية، منها ما يتعلق بتوجهات الحكم وتشكيل الحكومة وكيفية إدارة الدولة وبأي توجهات، ومنها ما يتعلق بترتيبات الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة، بخاصة بعد تأكيد قادة الكيان الإسرائيلي السياسية والعسكرية ان جيش الاحتلال سيبقى على الأقل في خمس نقاط استراتيجية حاكمة هي: جبل بلاط واللبونة وجبل العزية (بين كفركلا ودير ميماس) والعويضة بين الطيبة والعديسة وتلة الحمامص قرب مدينة الخيام، وربما يختار الاحتلال نقاطاً أخرى للبقاء فيها خلال المفاوضات اللاحقة المرتقبة لتثبيت الحدود الجنوبية وانسحاب الاحتلال منها نهائياً. وقد أكد الإعلام الإسرائيلي مرارا خلال الأيام الماضية وأمس، «ان الجيش لن يخلي كل النقاط التي احتلها، بل وسيقيم مواقع عسكرية دائمة أمام كل مستوطنة على الحدود مع لبنان»!
وظهر إستياء واضح من رئيس الجمهورية جوزاف عون من هذا التسويف والمماطلة، وهو القائد السابق للجيش وشارك في كل مراحل مفاوضات وقف إطلاق النار وتشكيل لجنة الإشراف وعاين الوضع ميدانيا في الجنوب ويعرف الكثير من الأمور التفصيلية التي تعهدت بها الدول الراعية للاتفاق وتنصّل منها الإسرائيلي والأميركي ووقف الفرنسي عاجزاً عن فعل أي إجراء يساعد لبنان.
وعلمت «اللواء» من مصادر رسمية ان الرئيس عون اتصل خلال اليومين الماضيين بأعضاء لجنة الإشراف مبدياً رفضاً شديداً لما يقوم به الاحتلال ومطالباً مجدّدا بوقف انتهاكاته، وتلقّى جواباً بان اللجنة تتصل بالجانب الإسرائيلي لوقف الانتهاكات، لكن يبدو انه إما اللجنة لا تضغط بشكل كافٍ، وإما ان إسرائيل لا تلتزم بطلبات اللجنة بسبب الدعم الأميركي والاتفاق الجانبي بين الجهتين. كما تلقّى عون وعدا بعقد اجتماع للجنة منتصف أو أواخر هذا الأسبوع لمناقشة الموضوع.
ولم يصدر حتى الساعة موقف رسمي وعلني من لجنة الإشراف ولا سيما من الجانب الأميركي فيها ما يدلّ على رفضها بقاء الاحتلال في أي نقطة، بل هناك وعود وكلام يذهب هباء في الهواء بضرورة الانسحاب الإسرائيلي الكامل، بينما على الأرض لم يلمس الجنوبيون أي إجراء فعلي، حتى ان اتصالات رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وأخيرا الرئيس المكلف تشكيل الحكومة نواف سلام بالدول المعنية لم تثمر سوى مزيد من الوعود من دون ردع الاحتلال عن مواصلة سياسة القتل والتدمير الممنهج بهدف تهجير أهالي الجنوب من قراهم وتكريس الخط الحدودي منطقة أمنية للاحتلال برعاية دولية.