IMLebanon

وزير المال يروّج لصندوق النقد: الانصياع أو الانكماش

 

لم يقدم وزير المال غازي وزني أي جديد في مشروع موازنة 2021. فرغم كل الكلام الوارد في الفذلكة عن سنة كارثية تراكمت فيها الأزمات من تعليق سداد الديون إلى انفجار المرفأ وكورونا، إلا أن الحلّ يبدو بديهياً لدى وزني بثلاثة رؤوس: التفاوض مع صندوق النقد الدولي، إطاحة القطاع العام، الخصخصة و«الشراكة» مع القطاع الخاص. أما ما يرد عن نظام ضريبي جديد تصاعدي و«أكثر عدالة» فهو لا ينسجم مع قوانين الموازنة التي تفرض الضرائب من كل حدب وصوب وتعفي رؤوس الأموال

 

مشروع موازنة 2021 ليس معدّاً للإقرار. هذا انطباع شريحة واسعة من المطلعين والمتابعين والخبراء الذين يعتقدون أن المشروع أُعدّ في إطار تغطية الواجبات البروتوكولية لوزير المال. ويتعزّز هذا الأمر بالمضمون الباهت للفذلكة وبنود الموازنة، انطلاقاً من كونها أعدّت على سعر صرف يبلغ 1507.5 ليرات وسطياً، رغم اعترافه بفقدان الليرة 80% من قيمتها، وبأنه يحصر المعالجة بسيناريو تشكيل الحكومة الذي يتضمن التفاوض مع صندوق النقد الدولي. كل الطرق بالنسبة إلى الوزير تؤدي إلى الصندوق والانصياع الكامل له قبل أن يطلب. فالتفاوض مع الصندوق هو «مفتاح الحل»، وهذا يشمل استعمال أدوات من نوع إطاحة نظام التقاعد في القطاع العام، والخصخصة (الشراكة مع القطاع الخاص). باختصار، إن مشروع وزني لموازنة 2021، هو الانصياع المسبق لصندوق النقد، بينما هناك مسائل من نوع «إعادة هيكلة النظام المصرفي» تتطلب استعادة الـ«الثقة» فقط. عن أي «ثقة» يتحدث الوزير؟ في مشروع الفذلكة لا يذكر الأمر صراحة، لكنه يشير إليها بوضوح في مواد الموازنة التي تتحدث عن إعفاء رؤوس الأموال من الضرائب، وإعفاء عمليات الدمج من الضرائب.

 

يبني الوزير وزني مسار الانصياع لصندوق النقد، بالاستناد إلى تراكم الأزمات. فقد جاءت جائحة «كورونا» بالتزامن مع تعليق سداد الديون السيادية، ثم تلاها انفجار المرفأ، فتضررت القطاعات الاقتصادية وزادت معدلات البطالة والفقر وانهار سعر صرف الليرة، وشلت الحياة المصرفية. ويتبنّى مؤشرات صندوق النقد الدولي عن انكماش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 25% في 2020 و6.9% في 2019، مشيراً إلى أن الليرة اللبنانية «فقدت 80% من قيمتها… وتعدّدت أسعارها في سوق القطع»، فضلاً عن تراجع تحويلات اللبنانيين المغتربين بأكثر من 50%، وتقلّص موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية نتيجة تدخّله في سوق القطع وتمويل عمليات استيراد المنتجات الأساسية وتحويل الأموال للمصارف لتسديد التزاماتها في الخارج، وتراجع حجم الودائع بالدولار.

الفذلكة تستفيض في الحديث عن مآسي لبنان، لكنها تبني عليها خطوات لا يمكن إطلاقاً تسميتها «مشروعاً إنقاذياً» من قعر الانهيار. فهي تقوم على المعالجة بأفق ضيّق يحصر كل ما يجب القيام به بمسار وحيد: صندوق النقد الدولي. لا حلول لدى الوزير سوى استجلاب الصندوق وتنفيذ أوامره وإملاءاته مسبقاً. وهو يضعنا أمام خيارين: سيناريو عدم تشكيل حكومة واستمرار تعليق التفاوض مع صندوق النقد الدولي الذي «يؤدّي إلى تزايد تراجع نسب النمو سلباً بما يتجاوز 25-%»، مقابل سيناريو تشكيل حكومة «قادرة على استكمال التفاوض مع صندوق النقد الدولي»، ما ينعكس تحسناً في الوضع الاقتصادي وتنخفض نسبة النمو السلبي إلى «نحو 5-%».

من الباب نفسه أيضاً، يعتقد وزني أن «سعر الصرف المتعدّد بات غير مناسب لتعافي الاقتصاد واستعادة الثقة بالنظام المالي وتأمين الاستقرار الاجتماعي والحدّ من تفاقم التضخّم»، مطالباً بتوحيد سعر الصرف، «لكن يتطلب ذلك في الدرجة الاولى الدخول في برنامج مع صندوق النقد الدولي».

في الواقع، يصعب البحث عن فكرة في فذلكة الموازنة غير تلك التي يطالب بها صندوق النقد الدولي. فالتقشّف هو أساس مطالب الصندوق، ووزني يقدّم له ذلك عبر القول إن «الموازنة يجب أن تكون تقشفية»، و«الإصلاحات» التي يحدّدها الصندوق هي نفسها التي يتحدث عنها وزني في الفذلكة، وعلى رأسها «نظام معاشات تقاعد سخيّة».

أما زيادة الضرائب، فوزني يشير إلى الآتي: «توسيع القاعدة الضريبية وزيادة معدل الامتثال، إصلاح النظام الضريبي لجعله أكثر عدالة، اعتماد الضريبة التصاعدية، تحسين الجباية، تحسين التحصيل الجمركي من خلال مكافحة التهريب عبر جميع المعابر، واعتماد الضريبة الموحدة على الدخل».

إذاً، يريد وزني أن تكون الموازنة أداة لتعديل النظام الضريبي وجعله أكثر عدالة. لكن في مقابل «ضريبة التضامن» الاستثنائية التي لا تحتسب ضمن السياسات الضريبية المستدامة، بل أداة لمعالجة الخسائر في النظام المالي والمصرفي (اي عبارة عن هيركات)، منح وزني مجموعة إعفاءات ضريبية على المدى المتوسط والطويل لأصحاب رؤوس الأموال: إعفاء الشركات الناشئة من ضريبة الدخل لثلاث سنوات، إعفاءات بالجملة من ضريبة الأرباح للاستثمارات الجديدة لمدّة 10 سنوات، إعادة التقييم الاستثنائية للأصول، إعفاء من رسم الطابع المالي، استثناء بيع الأراضي من ضريبة القيمة المضافة، تمديد قانون ضريبة الأراضي لغاية 2023، تسويات بالجملة على الضرائب المتراكمة، من ضمنها إلغاء الغرامات بنسبة 100% و90%، إعفاء فوائد الودائع الجديدة بالعملات الأجنبية من الضريبة لمدة ثلاث سنوات…

ثمة الكثير ممّا قام به وزني، والذي قد يبدو للوهلة الأولى مناسباً، لكنه يأتي مبعثراً من دون خطة ومن دون استهداف واضح واتجاه معروف. كل هذه الخطوات هي عبارة عن إجراءات في الهواء لا معنى لها إذا لم تكن منسّقة ضمن خطّة واضحة المعالم، وإلا فسيؤدي تطبيقها إلى انتفاع فئات محدّدة من أصحاب الرساميل ويعزّز الزبائنية السياسية. بمعنى آخر، يعيد اللحمة المفقودة اليوم، بين أصحاب الأموال و«صنّاع» السياسة. فبأي هدف سنشجع الشركات عبر إعفائها من كل هذه الضرائب؟ أي شركات نريد أن تستثمر في لبنان؟ هل نريد كل الأنواع، بما فيها ما لا نحتاج إليه أو ما لدينا الكثير منه؟ ألم تكن خطوات من هذا النوع في السابق هي المسؤولة عن نموّ مشتّت يعزّز قبضة القطاع المالي على باقي القطاعات؟ ما الذي نريده في لبنان من هذا النموذج؟ هل نريد بلداً تنتشر فيه الجامعات كالفطر، وتتورّم فيه المصارف؟ هل نريد مطاعم لا تعدّ ولا تحصى؟ هل نريد صناعات تكنولوجية؟ هل نريد الاعتماد على مجموعة محدّدة من القطاعات الضخمة، أم ماذا؟

 

تشكيل الحكومة والتفاوض مع صندوق النقد يخفض النمو السلبي إلى 5-% مقارنة مع 25-% في حال العكس

 

 

في الواقع، كل الخطوات التي يذكرها وزني في فذلكته، لا تؤدي إلى سياسات ضريبية أكثر عدالة. أين هي تلك البنود التي تعيد العدالة الضريبية (باستثناء ضريبة التضامن التي طرحها البنك الدولي باعتبارها بديلاً لمنطق الهيركات). أما ما يطرح من إعادة هيكلة الدين الذي بات يمثّل 50% من الإيرادات العامة، فلا بدّ من القول إن هذا العمل ليس بطولياً، بل هو إجراء روتيني اليوم في ظل الإفلاس الحاصل. إعادة هيكلة الدين هي تحصيل حاصل، والحديث عنها لزوم ما لا يلزم، بل الاتفاق على بنودها هو المهمة التي يفترض إنجازها فقط. لكن حتى في الحديث عن هذه الهيكلة، لا ينفصل كلام وزني عن رغبته في التعاون مع الصندوق الذي يفرض أن تكون إعادة الهيكلة مرتبطة بمؤشرات استعادة نسبة الدين إلى 100% من الناتج المحلي الإجمالي. قبل ذلك، على الوزير أن يحدّد أي سعر صرف ستتعامل معه الوزارة لأي ناتج محلي إجمالي. والأمر نفسه ينطبق على إعادة هيكلة القطاع المصرفي. فالمصارف اليوم هي عبارة عن «زومبي» بغالبيتها، وبالتالي فإن إعادة هيكلتها ستحصل عاجلاً أو آجلاً، لكن بأي هدف؟ لا يذكر وزني شيئاً سوى أن «إعادة الهيكلة الشاملة للقطاع تعتبر من أهم التحديات للعام 2021»، فضلاً عن أن «الإصلاح الشامل للقطاع المالي (مصرف لبنان والمصارف) من أهم التحديات للعام 2021».

هل فذلكة الموازنة هي المكان المناسب لتعداد تحدياتنا، أم لتقديم الحلول والأجوبة علنها؟ الكل يعلم أن الكهرباء هي تحدّ مثلها مثل إعادة الهيكلة المصرفية، والدين العام، والفساد. لكن هل كل ذلك يواجه بـالعبارة الآتية: «يحتاج لبنان لتحقيق هذه الخطوات إلى دعم خارجي من خلال الدول المانحة ومؤتمرات اقتصادية ومالية، كما يحتاج الى تنفيذ الإصلاحات المطلوبة والدخول في برنامج مع صندوق النقد الدولي».

 

«سيدر» في البال

– لتدارك عدم ثبات سعر صرف الدولار وتداعياته على الإنفاق العام المرتبط بهذه العملة إلى حد ما كما وارتفاع الأسعار، جرى رفع اعتمادات احتياطي الموازنة العامة بنحو 317 مليار لهذه الغاية، مع تخصيص 14.2 مليار للاكتتابات والزيادة المتوقعة في رأسمال بنوك دولية.

– قدّرت خدمة الدين العام في مشروع موازنة عام 2021 بنحو 3106 مليارات ليرة مقابل 4694.63 مليار ليرة في موازنة عام 2020، وقدّرت مستحقات الفوائد على سندات الخزينة الداخلية بـ2986 مليار ليرة مقابل عدم احتساب الفوائد المستحقة على سندات الخزينة بالعملة الأجنبية.

– شكلت النفقات الاستثمارية المقدّرة للعام 2021 نسبة 4.1% من إجمالي النفقات، علماً بأنه تم إرجاء معظم قوانين البرامج لمدة سنة، نظراً إلى الأوضاع المالية الصعبة وعدم قدرة الخزينة اللبنانية على تأمين التمويل اللازم، وسيعوّل على التمويل الخارجي، ولا سيما «مؤتمر سيدر».

– مثّل عجز الموازنة المقدّر بـ 4387.2 مليار ليرة 24.43% من إجمالي النفقات (في حال عدم احتساب سلفة خزينة كهرباء لبنان).