IMLebanon

شارل أيّوب… الضروري الوجود

 

يشكل شارل أيوب «نموذجاً» في الصحافة اللبنانية. الضابط الطيار. السوري القومي الاجتماعي. حليف سوريا وحزب الله. المرشح الماروني الدائم للإنتخابات. الصحافي الذي لا يتردد في ابتزاز من بيدهم المال. انفعالي وصريح وفضائحي. يذهب في قضاياه إلى حد التهور والمصارعة في الميدان

 

يدّعي أحدهم على شارل أيّوب، أمام القضاء، بجرم شيك بلا رصيد، فيَطلب القضاء مِن أيّوب أن يَحضر إلى النيابة العامّة. ويَحضر أيّوب. يدّعي بدوره على ذاك «الأحدهم» بجرم التزوير… فلا يَحضر الأخير إلى النيابة العامّة. هذه خلاصة القضيّة. أيّوب ضعيف والآخر قويّ. الأقوياء لا «يتجرجرون» (بسهولة) أمام المحاكم. شارل أيّوب منكسر هذه الأيّام، في نهاية منطقيّة لرحلة حياته، فيما الآخر، خصمه، مبتهج بترشّحه في الانتخابات النيابيّة المُقبلة. لا حتميّة بين المنطق والعدالة، غالباً، وهنا أيضاً. ذاك «الأحدهم» يُصادف، هذه المرّة، أن يكون اسمه سركيس سركيس. اسم يكاد أن يُصبح أغنية. يفيض بالموسيقى. ينفع أيضاً أن يطلق على معبدٍ على جبل. صاحبه مشهور، صدفة، بأنّه مِن الداعمين ماليّاً للمعابد. هذه خلاصة ثانية للقضيّة.

 

كثيرون ظنّوا أنّ مثول أيّوب أخيراً أمام القضاء، ثم خروجه أمام الشاشات بوجه شاحب، وهو معتلّ الصحّة، سببه الشتائم الجنسيّة التي كتبها قبل مدّة في جريدة «الديار». ما كتبه كان صادماً، صحيح، إنّما ما حصل قضائيّاً كان نتيجة تحريك لملف، منوّم قصداً، لدى النيابة العامة. ملف عمره نحو عامين. القضيّة ماليّة محض. البعض قال إنّ أيّوب حاول الانتحار. هذه مبالغة. ما حصل أنّه لم يستطع أن يختبر لحظة الضعف، في مكتب القاضي، لم يستطع تقبّل قرار توقيفه، فانفجر غضباً. كان عزيز قوم لعقود مِن حياته. تضاءل إلى حد أن يخرج أمثال السركيس ليعفو عنه، رأفة بحالته الصحيّة، وهكذا يجور الزمان حتّى يُقال هذا بذاك.

شارل أيّوب شتّام؟ آه، نحن في بلاد الوزراء فيها لا يَشتمون، النوّاب فيها براء مِن بذاءة اللسان، القضاة ملائكة ينطق الروح القدس بألسنتهم! سائر الصحافيين أنبياء! ما مِن صحافي، يتواصل مع المسؤولين في بلادنا، في الجلسات الخاصّة وأحياناً بالهاتف، إلا ويَسمع مِنهم ألفاظاً كان أيّوب ليتردّد في كتابتها. هذا الرجل يكتب ما يقوله. ما نقوله جميعاً. ولكي لا تأخذ «الملائكة» على خاطرها سنقول «أكثرنا».

شارل أيّوب، بمعنى ما، وبإطار مُحدّد، يَنفع أن يُعمّم كنموذج «مضاد للنفاق». عندما نسأله لِمَ تورط نفسك في هذه المفردات، في مقالاتك، فلا يجد ما يقوله سوى: «ما تسألني ما بعرف، هيك بيطلعوا معي، بكتبهم». هذا طفل في العقد السابع من عمره. مَن يجرؤ، سوى أيّوب، أن يكتب ما يقوله؟ قد نبدو هنا مدافعين عن البذاءة. لا، ليس بالضرورة، ولكن لا بدّ أيضاً مِن فضح تلك «الملائكيّة» الزائفة. كثيرون مِن أولئك «المتطهّرين» أخذوا، قديماً، على الشاعر مظفّر النوّاب بذاءة لسانه، فشنّعوا عليه ونالوا مِنه. ردّ عليهم: «اغفروا لي حزني وخمري وغضبي وكلماتي القاسية، بعضكم سيقول بذيئة، لا بأس… أروني موقفاً أكثر بذاءة مِمّا نحن فيه». بعض «الأنقياء» كأنّهم لم يسمعوا عن الهجاء العربي. جرت قديماً، على ألسن كبار شعراء العرب، ألفاظ فيها مِن الفحش ما يُدهش أيّوب نفسه. وصل الأمر بخليفة المسلمين أن يشتري أعراض الناس مِن الحطيئة (شاعر من العصر الجاهلي يدعى أبو مُلَيْكة بن مالك العبسي). المال مقابل أن يسكت. الحطيئة، على رغم ذلك، كادت تخنقه الكلمات: «أبت شفتاي اليوم إلا تكلّماً… بشرٍّ فما أدري لِمَن أنا قائله». في النهاية شتم نفسه. أيّوب ليس أديباً، طبعاً، ولا مقارنات هنا، إنّما مِن حيث المبدأ لا بأس بفضح سلوك الاندهاش المُفتعَل.

أيّوب، وإن حاول أحدهم «زركه» بطريقة ما، فلن نجده إلا معترفاً بما لا يجرؤ كثيرون على الاعتراف به. أنت تقبض أموالاً، بصفتك رئيس تحرير الصحيفة، مِن جهات سياسيّة لتلميع الصورة؟ سيُخبِر بما كان بإمكانه ألا يبوح به: «لا أكتب ما يُريدون، لكن نعم، كنت أتقاضى 20 ألف دولار شهريّاً مِن سوريا، ولاحقاً 100 ألف دولار شهريّاً مِن السعوديّة. دلّوني على وسيلة إعلاميّة لا تقبض». هذه قالها سابقاً، في مقابلات، ويقولها الآن.

شارل أيّوب أسطوري. لا شيء يجلب الكارهين أكثر مِن هذه الصراحة الفضائحيّة. لم يبكِ أمّه يوم رحيلها. المُعالج النفسي قال له عليك أن تبكي. الصبي الوحيد في عائلة بين سبع بنات، الآتي مِن منزل فيه الكثير مِن الكهنوت، سيُصبح لاحقاً حزبيّاً في «السوري القومي الاجتماعي». علماني مؤمن بالمسيح. سوريا، عنده، هي التي تحوي الجميع. أحبّ سوريا على رغم أنّ الوصاية السوريّة لم تسمح له أن يُصبح نائباً. ترشّح في تسعينات القرن الماضي، لكن لم يحالفه الحظ، أو بالأحرى لم يحالفه «الحاكم». يفتخر، دائماً، بخدمته في الجيش اللبناني. أصبح لاحقاً «صاحب جريدة». تورّط في القمار، إلى حدّ الإدمان، مُصارحاً أنّ هذه «حالة مرضيّة». كم تبدو شخصيّته قريبة مِن «ألكسي إيفانوفيتش» في رواية «المُقامر» لدوستويفسكي: «إنني لا أطيق أولئك الشرفاء الذين يخشى المرء أن يقترب منهم». الكاتب كان مدمن قمار. بطل الرواية كذلك، وإن اختلفت الظروف، وهو المحكوم عليه بالسجن لعدم إيفائه بالتزاماته الماليّة. يُمكن لأيّوب أن يشتم فلاناً اليوم، ثم يعتذر مِنه غداً، في الصحيفة نفسها. يُمكن لِمن تأخر عنه بالدفع أن يستيقظ صباحاً ويجد «شرشحته» في الصحيفة، وبعنوان واضح، وبسبب مكتوب أوضح: لأنّه لم يدفع. أسطوري شارل أيّوب.

نحن في لبنان، في هذه المنطقة، ثم نقيم الدنيا ولا نقعدها على من يَشتُم وإن بعيار ثقيل! أساساً، بعد كلّ ما مررنا به، وبعد اللحظة الداعشيّة وما رافقها، آن الأوان لفحص أولئك الذين ما زالوا قادرين على عدم البذاءة. هؤلاء باتوا يستحقّون التكريم لقدراتهم الفائقة على ضبط ألسنتهم. الطريقة «الأيوبيّة» هي إفراز طبيعي للحظتنا التاريخيّة. صحيفة «الديار» كمؤسسة هي كذلك أيضاً. لأيّوب دور في ما وصلت إليه الصحيفة؟ أكيد. هذه ضريبة. ذات يوم باع النسخة مِنها بـ 500 ليرة. كاد يوزّعها مجاناً. عند محاججته في أسلوبه، يخرج بعبارة تنفع أن تذهب مثلاً: «الحريّة تُصحّح نفسها، أمّا القارئ الذي يقرأني في الديّار، فإمّا يتوقّف عن قراءتي وإمّا يستمر في ذلك. له الحريّة». يُنكر أن يكون وضع صحيفته يوماً على طاولة القمار. وضع الكثير مِن الأشياء، إلا الصحيفة. ذات يوم طلب مِن أحد المسؤولين الأمنيين السابقين أن يسحب مِنه جواز سفره، حتّى لا يتمكّن مِن السفر ولعب القمار في الخارج، فكان له ذلك. هذه نعرفها مِن رواة كانوا قريبين. تمنّى أيضاً على القوى الأمنيّة أن تمنعه مِن ممارسة اللعبة في كازينو لبنان، ولو بالقوّة. يُمكن أن يشتمهم، بعد ذلك، بسبب منعه. يقول إنّه تعالج في النهاية مِن هذا «المرض». لا يجد حراجة، مرّة أخرى، أن يعترف قائلاً: «أنا دمّرت نفسي». يُحبّ عائلته كثيراً. في مقابلة سابقة معه، عن حياته، اكتفى بقوله لأولاده: «سامحوني». ربّما يكون اليوم على محبّي الرجل، الشخص، أو الحالة، عدم تركه وحده. ألا ينطفئ. شارل أيّوب «ضروري الوجود». حالة ممتعة، محزنة، مزيج مِن كلّ الأشياء… لا تتكرّر دائماً.