IMLebanon

بانتظار صحوة نجفية شيعية لبنانية

 

شهدت مدينة كربلاء في الثالث من الشهر الجاري انعقاد مؤتمر استمر ثلاثة أيام، شاركت فيه فصائل الحشد الشعبي التابعة لمرجعية النجف إضافة إلى مسؤولين وقادة عسكريين. ناقش المؤتمر سبل احتواء الميليشيات الموالية لإيران (الولائية) والعاملة تحت مظلة الحشد ومحاولة الحد من نفوذها. ومع انتهاء المؤتمر، جددت الفصائل النجفية الأربعة (لواء أنصار المرجعية، ولواء علي الأكبر، وفرقة العباس القتالية، وفرقة الإمام علي القتالية) التزامها حماية سلطة الدولة ومؤسساتها، وأكدت ارتباطها بالجيش العراقي، مطالبةً الحكومة العراقية باستكمال عملية دمجها بالقوى الشرعية الرسمية.

جريء قرار المرجعية الشيعية في النجف احتواء الفصائل الولائية في قوات الحشد الشعبي وسحب الغطاء الديني والعقائدي عنها، في محاولة لإعادة الحشد إلى الإطار الوطني غير الفئوي. لا شك أن قراراً كهذا يساعد الحكومة في السيطرة على الحشد والمضي في عزمها على حصر السلاح في يد الدولة، وهي مهمة لا تزال محفوفة بعقبات ومطبات ومخاطر كثيرة داخلية وخارجية. فموقف مرجعية النجف الواضح بات يتطلب موقفاً واضحاً من الميليشيات الولائية، فإما أن تقبل بنهج المرجعية فتطلق النار على رأسها وإما أن ترفضه وتواصل تمردها فتطلق النار على عراقيتها.

محاولة مرجعية النجف إعادة الحشد الشعبي إلى الحضن العراقي والحد من النفوذ الإيراني في البلاد تثير وتحيّر الكثير من اللبنانيين، إذ لماذا يصح في العراق ما هو حتى غير مفكَّر فيه في لبنان؟ لماذا تستطيع المرجعية في النجف بخاصة، وقسم كبير من شيعة العراق بعامة، الإقدام على عقد مؤتمر يهدف إلى تطويق أدوار الميليشيات الحليفة أو التابعة لإيران ووضع سلاحها تحت سلطة الحكومة وقرار الدولة المركزية، وليس بمقدور قوى شيعية وازنة في لبنان محاكاة ما يجري في العراق، في الوقت الذي يشهد البلدان انتفاضتين شعبيتين عارمتين انطلقتا في شهر واحد، أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وتكاد مطالبهما تتطابق؟

الإجابة تقتضي أولاً الإشارة إلى الخلاف العقائدي التاريخي بين مرجعيتي حوزة النجف وحوزة قم والذي يعود إلى انتهاج حوزة النجف التقية وتجنبها أي شكل من أشكال الانخراط في الشأن السياسي، ولهذا تسمى الحوزة الصامتة، فيما حوزة قم سيّست الطائفة الشيعية بسبب عقيدة ولاية الفقيه التي تدعو رجال الدين إلى تسلم مقاليد السلطة السياسية، ولذلك سُميت الحوزة الناطقة. هذا الخلاف منع إيران من توسيع نفوذها الديني في العراق على الرغم من توسيع نفوذها السياسي، كما منعها من السيطرة على المؤسسة الدينية الشيعية النجفية.

إلى هذا، غالبية الشيعة اليوم لا يوالون المرشد الأعلى للثورة في إيران السيد علي خامنئي، بل يوالون السيد علي الحسيني السيستاني كأعلى مرجع تقليد عند الشيعة الاثني عشرية، الذين يشكلّون 10 إلى 13% من مسلمي العالم، لأن مكانة السيستاني وعدد مقلديه ومواقفه تبقى جزءاً من تراث يعود إلى ما يقارب الألف سنة. وتكمن أهمية السيستاني في أنه أثبت قدرته على إيجاد توازن في تدخله السياسي بحيث لا يمكن وصفه بالمفرط ولا بالضئيل، فضلاً عن أن المؤسسة الدينية الشيعية العراقية تتمتع باستقلالية متميزة عن المؤسسات الأخرى المماثلة لها في المنطقة ولا ترتبط بالحكومة أو تعوّل عليها.

في المقابل لا يمكننا غضّ النظر عمّا تعرضت له الطائفة الشيعية في العراق إبان حكم صدام حسين والدفع قسراً بالعديد من رموزها وعلمائها وناشطيها إلى الحضن الإيراني، فهنا بداية مسار نفوذ إيران في العراق والذي استُكمل بعد سقوط النظام.

يبقى السؤال بيت القصيد هو: ماذا يمنع شيعة لبنان من محاكاة ما يجري في العراق؟ المناسبة تقتضي أولاً التذكير بأن سنوات ما قبل الحرب الأهلية في عام 1975 شهدت انخراطاً ملموساً لشرائح شيعية لبنانية مهمة في الأحزاب والحركات السياسية اللبنانية اليسارية والقومية والعلمانية. وفي مفصل آخر من فصول الحرب اللبنانية بعد أن أصبحت «باردة»، كان أهم الناشطين والمنظِّرين والكتّاب لصالح حركة «14 آذار» المناهضة لـ«حزب الله» وإيران ومحور الممانعة والتي نشأت إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في عام 2005، من أبناء الطائفة الشيعية ومثقفيها، والمجال لا يتسع لتعدادهم.

هذا لتبيان أن الطائفة الشيعية في لبنان، ومن دون الغوص في تاريخها ودورها على أكثر من صعيد أقله في تاريخ لبنان المعاصر، كانت الطائفة الأقل تعصباً وتمسكاً بالطائفية. ويكفي في السياق نفسه أن نذكر أدواراً مهمة لرموز شيعية في السنوات الخمسين الأخيرة كالإمام موسى الصدر والإمام محمد مهدي شمس الدين وهاني فحص، كما لقيادات تقليدية مثل كاظم الخليل ودوره في إنشاء الحلف الثلاثي في عام 1968، وعادل عسيران، وكامل الأسعد ودوره في انتخاب الرئيس بشير الجميل، وصبري حمادة وعلاقته بالعهد الشهابي والشهابية، وكثيرون غيرهم. فما الذي تغير؟

على الرغم من أن سؤالنا مشروع، فإنه مشروعٌ أيضاً لاكتمال المشهد النظر في الوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت على الطائفة الشيعية وحوّلتها إلى حاضنة لـ«حزب الله» ومشروعه السياسي.

لعقود وعقود، عانت مناطق الشيعة من إهمال الدولة وكانت الأقل تنمية مقارنةً بغيرها من المناطق اللبنانية. وما زاد الطين بلة هي مرحلة الاعتداءات الإسرائيلية منذ عام 1968 التي وسمت الجنوب بخاصة، ووصلت إلى ذروتها مع الاجتياح الإسرائيلي عام 1978 وحرب عام 1982 ناهيك بالانحرافات الفلسطينية وتجاوزات النظام السوري وما نتج من خسائر بشرية ومادية خلقت شعوراً دائماً لدى المواطن الجنوبي بأنه مهدَّد يومياً في حياته ورزقه واستقراره.

في ظل هذا الواقع غير السويّ، دخل «حزب الله» إلى مفاصل الطائفة وعمل على مدى عقود في تجذير عقيدته عبر شبكة هائلة من المؤسسات الخدماتية الصحية والتربوية والاقتصادية والمالية وحمله سلاح مقاومة إسرائيل حتى نجح في خطف الطائفة وإبعادها ليس فقط عن النسيج المجتمعي اللبناني بل أيضاً عن أصولها الشيعية النجفية، وجعلها تدور في الفلك الإيراني عقائدياً وسياسياً. والمحزن هو أنه إزاء هذا المشهد، لم تقدم الدولة والقوى السياسية في البلاد وعلى مدى 40 سنة مكّن الحزب نفوذه خلالها، أي بدائل لأبناء الطائفة يتمكن المواطن العادي من المفاضلة بينها وبين ما يقدمه الحزب له عقائدياً دينياً، ومطلبياً طائفياً.

اليوم تتجه الأصابع كلها لتحمل «حزب الله» مسؤولية ما آلت إليه أحوال البلاد والعباد، وقد يكون ذلك صحيحاً إلى حد بعيد، إنما الحق يقال أيضاً، وبمعزل عن الدولة المعطَّلة والغائبة، إن القوى المناهضة للحزب ومشروعه لم تقدم أي مشروع أو رؤية أو حتى طرح بديل استطاع جذب، أقله، قسم من أبناء الطائفة الشيعية المتململين من أداء الحزب وسيطرته، خصوصاً بعد أن غاص في وحول السياسة التنفيذية. فقبل مطالبة الشيعة بالانتفاض على هيمنة «حزب الله»، الأجدر مطالبة الأطراف السياسية المناهضة للحزب والتي تسمي نفسها سيادية، بالانتفاض على واقعها وتقديم بدائل ورؤى ملموسة للتغيير السياسي لكل اللبنانيين، عوض التناحر والتنافس وتدبير الكمائن فيما بينها بعد أن جلست مع «حزب الله» على الطاولة الحكومية نفسها وشرّعت سلاحه في بيانات الحكومات المتعاقبة.