IMLebanon

هل زال «الإحباط المسيحي»؟

«التيار الوطني الحرّ» وصل إلى السلطة، «القوات اللبنانية» أكثر الداعمين، بكركي هلّلت ومعها قوى مسيحية مستقلة، والكتائب تأمل في مفاجآت إيجابية. وبذلك، يتأرجح وضع غالبية مسيحية بين انطباعين: فريق يعتبر أنّ المسيحيين حقّقوا انتصاراً تاريخياً (عون، جعجع، بكركي)، وآخر يُراهن على أنّ الذي حقّق الانتصار هو المحور الإيراني… لكن لا بأس بالمراهنة على إيجابيات من شخص كـ»الجنرال»!

في تقدير بعض الأوساط المسيحية أنّ وضع المسيحيين بعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية أفضل من وضعهم قبله. فالرجل يمثّل قاعدة شعبية وازنة، ويدعمه فريق يمثّل قاعدة أخرى هو «القوات اللبنانية»، ويحظى بغطاء القيادة الروحية للموارنة.

فقد تحقَّق لبكركي في النهاية ما أرادت: إنتخاب أحد الأقطاب الأربعة، وضمن التوافق المسيحي، ولو كان هذا التوافق يحتاج إلى التطوير ليكون أكثر شمولاً. وهذه المرّة لم يتعرَّض البطريرك مار بشارة بطرس الراعي لِما تعرَّض له سلفه من معاناة مع القوى المهيمنة، ضمن ما سمّي «الحلف الرباعي» خلال المرحلة السورية وبعدها.

لقد طُلب من البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، مراراً، أن يختار أسماء يُريدها للرئاسة. وعندما كان يفعل، كان يجري اختيار مرشحين آخرين، فتُصاب بكركي بنكسة معنوية. والنكسات المتتالية زعزعت المكانة التي لطالما تمتّع بها الصرح منذ ما قبل نشوء لبنان الكبير.

وكاد البطريرك الراعي أن يعيش تجربة مماثلة، مع تمادي الفراغ الرئاسي لنحو عامين ونصف العام. لكنّ مفاجأة تفاهم «التيار» و»القوات»، كانت حاسمة في تغيير المعادلات، بعدما استدرجت القوى الأخرى إلى «التسوية المسيحية»، السنّي أولاً ثم الشيعي والدرزي.

في تقدير هذه الأوساط أنّ تجربة إيصال عون إلى رئاسة الجمهورية، بعد صراع دام نحو ثلاثة عقود، لا يجوز إهدارها بالقول إنها مجرّد انتصار للمحور الإيراني. وسيتبيّن أنّ هذه المقولة مبالغ فيها، وأنّ القرار في القصر هو لعون لا لسواه. ولعلّ إيران لم تكن راغبة أساساً في ملء الفراغ الرئاسي في هذا الوقت تحديداً، لكنّ تفاهم القوى الداخلية هو الذي فرض الخيارات على الجميع.

وتجدِّد الأوساط دعوتها إلى مسيحيّي لبنان لكي يقتنعوا بأنهم ما زالوا قادرين على إحداث التوازن الكامل في المعادلة، بمجرّد توافقهم وتفاهمهم على الأساسيات. والدليل هو «معجزة» إيصال أبرز ممثليهم إلى الحكم، بعدما كان هذا الأمر صعباً حتى في أكثر المراحل ازدهاراً للدور المسيحي ولسلطة الرئيس، قبل «الطائف».

طبعاً، هذه المقولة تواجهها آراء آخرى، داخل الصف المسيحي الـ14 آذاري، ما زالت تعتقد أنّ صياح «الديك» المسيحي (تفاهم عون- جعجع) ليس هو الذي سمح للشمس بالشروق (وصول عون إلى القصر). إنّ صياح «الديك» هو الذي أعلن عن شروق الشمس… عندما كان الموعد قد حان.

فالإيرانيون اتخذوا قرارهم بملء الفراغ في لبنان قبل الانتخابات الأميركية… ووجد السعوديون أنّ ذلك يناسبهم. وربما يمكن الحديث هنا عن انتصار عون شخصياً، لأنه استطاع فرض ترشيحه على حلفائه والخصوم.

أيّاً تكن النظرة الأقرب إلى الصواب، فإنّ هناك مَن يعتقد بأنّ الحدث الرئاسي، إذا لم يكن انتصاراً مسيحياً فعلاً، فيمكن لعون والقوى المسيحية أن تحوِّله انتصاراً يمكن من خلاله إعادة التوازن إلى المعادلة التي أصيبت بالخلل في مراحل سابقة، وكان ضحيتها المسيحيون خصوصاً.

ولعلّ الأبرز في هذا المجال يكمن في «التنفيذ الكامل وغير الاستنسابي لاتفاق الطائف»، وفق ما أورد عون في خطاب القسَم. فاستعادة التوازن تقتضي أن يخرج جميع اللاعبين من النهج الذي جرى تكريسه بعد «الطائف»، والذي يتعاطى مع التمثيل المسيحي في شكل إلحاقيّ، بدءاً بموقع رئاسة الجمهورية مروراً بالحكومة والمجلس النيابي، وصولاً إلى المؤسسات والإدارات والمصالح والأجهزة. ولذلك، سيكون العهد أمام التحدي

المتواصل للخروج من هذا النهج، من خلال المحطات الآتية:

1 – هل ستتشكّل حكومة متوازنة، تحترم روح المناصفة تماماً، من حيث نوعية الحقائب الوزارية؟

2 – هل سيتمكن رئيس الجمهورية من إصلاح الخلل الإجرائي في صلاحياته، الناتج عن «الطائف»، والذي زاد في تفاقمه الاستقواء على موقع الرئاسة على مدى ربع قرن مضى؟

3 – هل سيكون هناك قانون متوازن يحفظ التمثيل الحقيقي لكل الطوائف والقوى السياسية، أو سيجري مرّة أخرى «سلق» الانتخابات ليأتي ممثلو المسيحيين في بوسطات ومحادل يقودها قادة طوائف أخرى؟

4 – هل سيستمر تهافت البعض على مواقع موظفين وإدارات وأجهزة ومصالح معروفة يشغلها مسيحيون، لأنّ هؤلاء «ليس لهم ظهر يشدّ بهم»؟

5 – هل سيتوقف في عهد عون التوسّع المُمنهج لبعض الفئات على حساب أراضي المسيحيين التاريخية، من دون أن يقوم الأمنيون أو القضاة بأيّ دور في حمايتها؟

هذه هي الاستحقاقات التي تقتضي المرحلة أن يواجهها العهد ليصبح ممكناً الاعتقاد أنّ وصول عون إلى الحكم هو الخطوة الأولى لإنهاء الإحباط المسيحي.

وفي أيّ حال، يبدأ هذا المسار بخطوات مطلوبة من المسيحيين أولاً، وقبل سواهم، وهي الآتية:

1 – أن يكون عهد عون قوياً بالشفافية والنزاهة قبل أي شيء آخر، لئلّا يأخذ عليه أحد أيّ «مَمسك» في هذا المجال ويستغلّه للضغط عليه سياسياً. ولا بدّ أن يبدأ ذلك في اللحظات الأولى من العهد ويستمر حتى نهايته.

2 – أن يحافظ المسيحيون على تماسك الحد الأدنى، بما يشبه النموذج الحاصل لدى الشيعة والسنّة والدروز بدرجات متفاوتة. فانقسام القادة المسيحيين هو نقطة ضعفهم الأساسية التي أوصلتهم إلى هذا الدرك من الخلل في التوازن الوطني.

وهذا التماسك هو الذي يجعل الشيعة مثلاً قوة لا تُقهَر، قبل السلاح، وهو الذي يدعم استمرار الرئيس نبيه بري في موقعه في رئاسة المجلس. وأيّاً يكن قانون الانتخاب الذي سيجري اعتماده، فإنّ تحالف القوى المسيحية يتكفّل بتحسين التمثيل المسيحي بنسبة عالية.

مثلاً: هل هناك مشكلة مسيحية في اعتماد قانون 1960، في دوائر بيروت وجبيل وكسروان والمتن وجزين وزحلة إذا كانت القوى المسيحية متحالفة على غرار تحالف القوى الشيعية؟

لذلك، هناك اعتقاد بأنّ انتخاب عون، في ظل التوافق مع «القوات اللبنانية»، واحتمالات التعايش بين الكتائب وقوى مسيحية عدة مع العهد، قد يؤدي إلى زوال مقولة «الإحباط المسيحي» أو الحدّ منها بشكل ملموس، ولكن إذا التزم القادة المسيحيون بالشروط اللازمة لذلك.

المهمّ أن يعرف القادة المسيحيون أنّ طريق الخروج من الإحباط يبدأ من عندهم لا من عند الآخرين. المهمّ ألّا «يَسكروا على قِشرة بَصْلة»!