تشكّل مسارعة البطريركية المارونية الى احتضان مسيحيّي دير الأحمر وبعلبك، خطوةً يحتاجها أهلُ المنطقة، خصوصاً أنهم يعانون من غياب ممثّليهم السياسيين الحقيقيّين، لأنّ قوانين الإنتخاب تفرض عليهم نوابَهم، لكنّ «جريمة بتِدعي» أعادت طرحَ إشكالية مسيحيّي الأطراف البعيدين من جبل لبنان والشمال المسيحي.
زيارتان للبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، إلى البقاع في أقلّ من شهر، وذلك لاحتواء تداعيات جريمة بتدِعي المروّعة التي سقط ضحيتها شهيدان من آل فخري بنيران آل جعفر، في وقت سارعت المرجعيات الدينية والسياسيّة في المنطقة بدورها إلى سحب فتيل التوتّر المذهبي.
يشتمل مصطلح «الأطراف» جميع المسيحيين الموجودين في عكار والبقاع والجنوب، لكنّ الكلام الصريح في هذا الشأن جاء على لسان راعي أبرشيّة البترون المارونية المطران منير خيرالله، عندما أعلن خلال زيارة التعزية الأولى التي قام بها إلى بتدعي، أنّ أهالي دير الأحمر والبقاع غير متروكين، رافضاً منطق إهمال مسيحيّي الأطراف، أو التفرقة بينهم وبين مسيحيّي الداخل.
وفي هذا الإطار، يوضح المطران خيرالله لـ»الجمهورية»، أنّ «زيارة الراعي الى البقاع هي للقول إنّ المسيحيين هناك هم القلب وليسوا الأطراف، وللتأكيد أنّ الكنيسة المارونية لا تترك أبناءها المسيحيّين هناك لقَدَرهم، بل تَدعمهم في النضال للتمسّك بأرضهم والتشبث بوجودهم، لأنّ لهم رسالة عليهم تأديتها، ولن نستقيل منها مهما بلغ حجمُ التحدّيات».
ويشدّد خيرالله على أنّ «التواصل مستمرّ بين البطريركية المارونيّة وأبنائها، ومهما إشتدَّت وطأة التهديدات على مسيحيّي البقاع، وتفشّى الإرهاب والخطف والترهيب من حولهم، لن نخاف لأنّنا نزرع المحبة أينما ذهبنا، خصوصاً في هذا السهل الواسع».
ويشير الى أنّه «زار بتدعي معزِّياً عندما كان البطريرك الراعي في روما لحظة وقوع الجريمة، والكلام الذي قاله هناك كان بإسم الكنيسة المارونية، وبالتالي كان همّنا الأول ألّا تؤثر مثل هذه الجريمة في الحضور المسيحي هناك، أو تدفعهم الى اليأس والهجرة وترك الأرض».
وعلى رغم أنّ مسيحيّي البقاع يواجهون مخاطر جمّة، من الحرب الدائرة في جوارهم، الى تقلّص الإنتشار الجغرافي والتناقص الديموغرافي، يشدّد خيرالله على «أننا كمسيحيّين «مش قاسمينا» عن إخوتنا المسلمين، ونريد التعايش معهم تحت عنوان العدالة والعيش المشترَك»، لكنّه يذكر في المقابل أنّ «المسيحيّين لم يكونوا تاريخياً اكثرية في مجتمعاتهم الشرقية، لكنّهم خميرة هذه المجتمعات، وقيمة وجودهم ليست بكمية اعدادهم، بل بنوعيّتها، فهم ملح الأرض والشرق، ومقدار قليل من الملح يطعم كلّ الأكل ويُغيّر طعمه»، لافتاً الى أنّ «حضورنا يرتبط بقيمتنا الثقافية والحضارية وتعايشنا مع الآخرين، لأنّ الشريك المسلم لم يعد يستطيع العيش من دوننا، وبالتالي لن يُخيفنا لا الأعداد أو تكاثر السلاح».
يتفشّى السلاح بكثرة في البقاع، خصوصاً أنّ نيران الحرب السورية دفعت الجميع إلى التسلّح، وسط وجود منظومة «حزب الله» العسكرية من جهة، وخطر الجماعات السورية المسلّحة من جهة أخرى، فيما يبقى المسيحيون بعيدين كلَّ البعد عن خيار التسلّح، إذ يرفض خيرالله منطق الميليشيات، ويراهن على الجيش والدولة لحماية الجميع، معتبراً أنّ «سلاحنا الوحيد والاقوى هو سلاح المحبة، وليس السيف والمدفع، فهؤلاء لا يحمونا، لأنّ ما أُخذ بالسيف، بالسيف يُؤخذ. فالملك هيرودوس عندما عرف أنّ رسول المحبة والسلام، يسوع المسيح، قد وُلد أمَرَ بقتل جميع أطفال بيت لحم، خوفاً على كرسيه، لكنّ هؤلاء الشهداء الأطفال إرتفعوا ملائكة في السماء ورحل هيرودس وبقيت بيت لحم».
من هنا يؤكد خيرالله أنّ «الموارنة والمسيحيين باقون في ارضهم ولا يستطيع أحدٌ إقتلاعهم منها، ومهما استعملوا لغة السيف إلّا أنّ لغة المحبة ستنتصر، وهذه رسالة الى المسلمين في هذا الشرق».
وعلى رغم شغور سدّة الرئاسة، وافتقاد المسيحيّين رافعتهم على رأس هرم السلطة، يجزم خيرالله بأنّ «أحداً لا يستطيع إنتزاع الرئاسة من الموارنة، وهم الذين لم يبحثوا يوماً عن المراكز، وعاشوا خلال مرحلة السلطنة العثمانية، فكان وجودهم قيمة من خلال نشر العلم والمعرفة والمدارس وتطوير اللغة والمجتمع والثقافة، وليس من خلال السلطة التي هي تعبير عن حضورهم في الدولة فقط».
لا يكفي الدعم المعنوي وحده لإبقاء المسيحيين في البقاع أو أيّ بقعة أخرى في لبنان والشرق، فالأساس يبقى فرض الأمن ومنطق الدولة وصولاً الى الإنتعاش الإقتصادي، وهذا الأمر أكثر ما يفتقده البقاع الشمالي.