IMLebanon

«جحا وابنه والحمار»

 

يكتب وتصرخ يومياً منذ 25 سنة ولا يتغير شيء. منذ سنتين ركّزنا على الجانب المالي لأنّ معالم الخطر والافلاس بدأت في عدة جوانب. أيضاً لم يسمع أحد.

 

فجأة بدأت الناس تعلّق على ودائعها مع العلم انّ الشريحة الكبرى منهم لم تستحق حتى الآن انّ الودائع في خطر جدي.

 

يُكتب ثم يُكتب في المالية العامة (وهنا يجب التشديد انّ الأغلبية العامة ما زالت تخلط بين المالية والاقتصاد والنقد) الى أن يأتي من يقول لك انك تعيد نفسك ولم يعد للكلام تأثير. تحاول ان تشرح انّ لكل مرحلة كلامها وتوصيفها وحلولها، وانّ المشكلة انّ اي حل يطرح لزمن ما وواقع ما، تنتهي فعاليته اذا لم يطبَّق في حينه، تماماً كانتهاء صلاحية الدواء.

 

كان الهم الاساسي خلال الـ25 سنة الماضية التنبّه الى انفلات الموازنة لعدم ضبط الانفاق، ولجريمة ربط سعر الصرف مترافقاً مع التلاعب بسعر الفائدة. لم يسمع أحد حينها، مما أدى الى خروج الدين العام عن السيطرة، عندها كُتب وكُتب عن جريمة الدين العام منذ 2005، وايضاً لم يسمع احد، لا دولة ولا شعب، الكل كان ثملاً بإغراء لعبة الفوائد المنظمة Lebonzisheme.

 

اليوم، استفاق الجميع. المجرم والضحية. ينبري المجرم وكأنه الضحية، وتتساءل الضحية الفعلية ماذا فعلتم بي؟ ينتظر الساسة المنافقون حكومة الرئيس دياب. عندما تتّخذ قراراً شعبوياً، يسبقونها وكأنهم المبادرون. وإذا ما أخطأت، والحمد لله لم تفعل بعد، انهم جاهزون لاستلال سكاكينهم بُغية الإجهاز عليها والتبرؤ منها. ما زال هؤلاء الساسة يعتقدون انّ الناس سذّج. يعيشون في حالة إنكار انّ حتى أنصارهم استفاقوا على جرائمهم وما اقترفوه.

 

ستحاول الحكومة اتّخاذ إجراءات هنا وهناك لإظهار انّها فعلاً جدية لمنع الانهيار والبدء بالعملية الانقاذية. المشكلة انّ هذه الحكومة، تجهل او تعرف، انّ كل الاجراءات لضبط الانفاق وإغلاق مزاريب الهدر، ومنها تخفيف خدمة الدين عبر التوقّف عن دفع أصل وفوائد الديون الخارجية، وضبط دعم الكهرباء، وإلغاء المؤسسات التحاصصية وغيرها، كل هذه الاجراءات ضرورية ولكنها لم تعد تكفي بسبب انهيار اكثر موارد الدولة.

 

التركيز على تخفيف النفقات ممتاز، فلنفترض انّ خدمة الدين لامست الصفر، وهي يجب ان تكون كذلك بعد التوقف عن دفع اليوروبوند، بينما يتم تدوير كل فوائد وأصل الديون الداخلية بالليرة والدولار المترتبة للمصارف والبنك المركزي في أغلبها. ولنفترض ايضاً، استلحاقاً بما سبق، انه تمّت إعادة هيكلة الدين، وهو ضروري ايضاً، هل سيؤدي هذان الانجازان الى أن تكون الموازنة ذات فائض أوّلي؟ هل سيعودون الى القيود الدفترية المزورة؟ الأزمة أزمة موارد الدولة، فالرواتب والأجور في القطاع العام وبعض القطاع الخاص تدفع بالليرة، وعليها تحصّل الدولة ضريبة دخل، لكنّ أرقام الليرة باتت وهمية دفترية في الايراد والتحصيل، لأنها لم تنتج عن إنتاجية معينة. وهذا ينطبق ايضاً على تحصيل الكهرباء بالليرة بينما استيرادها الفيول هو بالدولار ولا إيراد لها بهذه العملة. وتتكرر الامثلة على أزمة واردات الدولة…. التي كانت هي جوهر الازمة سابقاً.

 

يُكتب ويعاد ما كُتِب سابقاً من اجل معالجة أزمة واردات الدولة واعادة الحياة لها، يجب أن تعود الدورة الاقتصادية، ولكنها لن تعود من دون قطاع مصرفي، والذي أفلس بدوره بكل ما للكلمة من معنى.

 

إذاً، تنتقل الازمة لمعالجة واردات الدولة إلى ولادة نظام مصرفي جديد برأسمال جديد وادارة جديدة. وهذا لن يأتي الى لبنان بدون ثقة المستثمر في النظام اللبناني وقضائه وأمنه. هذا غير متوافر، لماذا؟

 

لأنّ لبنان محكوم من مجموعة سياسيين، العديد منهم لا ضمائر لهم ولا أخلاق. سرقوا خزينة الدولة، ثم ودائع الناس، والآن يحتجزون شعباً بكامله. جمهورية لها ثلاثة رؤساء وحكومة ومجلس نواب، لا يستطيع أحد منهم مساءلة البنك المركزي بحزم. زعماء عندما يجلسون في مجلس رجال الاعمال يلهثون وراء اليخوت والطائرات الخاصة، ينبهرون «بحكمة» رجال المال، و»هضامة» مزاحهم. يختارون نوابهم ووزراءهم كالدمى. بعضهم نتيجة تاريخ من الولاء، والبعض الآخر لأنهم إمّا دفعوا مسبقاً للحصول على المركز أو تعهدوا بتلبية المصالح بعد تسلمهم المراكز، مما يضاعف المردود المالي. لا يتفوّه احدهم اعلامياً إلّا بقدر مسموح، ولا يبني شبكة علاقات وحضوراً اجتماعياً إلّا بقدر حدوده مرسومة.

 

لماذا انتقلنا بالحديث من التقنية المالية الى الفساد السياسي؟ نعود الى العنوان «جحا وابنه والحمار».

 

ينبري من يقول لك: «خلّيك بالمال والاقتصاد، ولا تتحدث بالسياسة. هذا أفضل، غيرك كثيرون يقولون في السياسيين ما تقوله. والله يحتار المرء كيف لا يدرك العديد منهم انّ التقنيات والممارسات السياسية مرتبطان ارتباط الجسد بالروح، وانّ الوصول الى الدولة الفاشلة ما كان الّا نتيجة محاربة الحلول التقنية في كل المراحل، من عجز الموازنة الى هيكلة الدين، والآن الى الافلاس المالي والاقتصادي والمصرفي. من لا يعرف انّ غالبية السياسيين لا يمكن ان يستسيغوا أصحاب رأي وخبرات وعلاقات دولية، ما لم تكن مسخّرة لهم، يرسمون هم فقط حدودها. وهم أيضاً لا يستسيغون من يستسيغ المتمرّدين.

 

الأزمة ايضاً وايضاً أزمة رأي عام، وضعف في الثقافة المالية، والبلوغ في الفكر السياسي، حتى قال البعض انه لولا تعرّض الودائع للخطر لكانت أغلبية الشعب زبائنية زعماء وطوائف ومناطق. نعم إنها ازمة حكم من متسلّطين، وأزمة شعب رضي وما زال قد يرضى اذا عاد من يضمن له وديعته لقاء انبطاحه امام الزعيم.

 

لذلك مَلّ الخبراء من الكتابة، ومن انتقادات من ينتقدون حول ما يكتبون. إن كتبوا او صرّحوا في التقنيات المالية، قيل يعيدون أنفسهم. وان كتبوا انّ الكارثة هي في ممارسة الحكم والحكام، قيل ان عليهم الّا يتعدّوا على ما هو ليس اختصاصهم. هذه قصة جحا وابنه والحمار.

 

لذلك وبصراحة مطلقة، لم يعد من منفعة في اقتراح حلول ولا مبادرات، ما دام القائمون على السلطة لن يتنحّوا ولهم أزلامهم، ومنهم من هو جاهز لتنفيذ أمر الزعيم مهما كان. ومن يقول اننا نطلب المستحيل بتنحّي هذا الملف الفولاذي، نقول له الّا يطالبنا بعد الآن بحلول تقنية. أليست مفارقة انه بعدما كان يقال لمَن يجرؤ بالحقيقة سابقاً، الله يقويك ويعطيك العافية، بات الآن الآلاف يرسلون على التواصل الاجتماعي: الله يحمدك.