IMLebanon

المجلس الدستوري: هنا أيضاً الأمر للسياسة والطوائف

في مثل هذا اليوم من العام 1993، أنشئ المجلس الدستوري. الدستوريون والقانونيّون علّقوا آمالاً كبرى عندما أثمر النقاش بين القوى السياسية خلال اتفاق «الطائف» اتفاقاً على تأسيس هذا المجلس، ليكون أعلى سلطة رقابيّة لأعلى سلطة إجرائية في لبنان (مجلس النوّاب).

صحيح أن هؤلاء كانوا يريدون من «أهل الطائف» أن تكون مهمّة تفسير الدستور محصورة رسمياً بهذا المجلس. ولكنّهم تغاضوا عن إجهاض هذه المهمّة، واكتفوا بالتصفيق لـ«ثمرة الطائف»، وإن كانت غير ناضجة كلياً. وتيقّنوا أن المجلس «سيساهم في إنقاذ الحياة الدستوريّة» من خلال البتّ بالطعون المقدّمة إليه، وأملوا أن يعود «حقّ التفسير» إلى يده قريباً.

خلال الأعوام الأولى على تأسيسه، لعب المجلس دوراً هاماً في المهمّة الموكلة إليه، وراكم في أرشيفه 17 قراراً صادراً عنه حتى العام 1996. ووصل الأمر إلى حدّ الطعن بقانون الموازنة في العام 1996 وإبطال بعض مواد قانون الانتخاب في العام 1996 وحتى إبطال قانون تمديد ولاية المجالس البلديّة والاختياريّة في العام 2007.

ولم يقتصر عمل المجلس على هذه القرارات بل تعدّاها في أعوامه الأولى بإعادة الانتخابات في عدد من الدوائر الانتخابيّة، ليكون النائبان روبير غانم وغسّان مخيبر «نجميها». يتذكّر اللبنانيون جيداً أنّهم ناموا على فوز هنري شديد بمقعد البقاع الغربي في (انتخابات 1996) وغبريال المرّ بمقعد المتن (الانتخابات الفرعيّة 2002)، واستفاقوا على غانم ومخيبر بدلاً منهما، بعد إعادة الانتخابات بطلب من المجلس الدستوري.

المجلس الذي استطاع إبطال «الحق بسريّة المخابرات الهاتفيّة» في العام 1999، بدأ نجمه يخفت إلى أن بهت بعد العام 2005، وتحوّل إلى مقرّ ينادي «وينن»!

حينها، أصدر مجلس النوّاب قراراً بتأجيل المراجعات (تحديداً بشأن تقدم 11 مرشحاً بطعون نيابيّة على منافسيهم إثر الانتخابات النيابيّة في العام 2005). المجلس الدستوري «لم يرضَها على نفسه»، فأبطل هذا القانون. وبعد قرار الإبطال: أجّل المجلس النظر بالمراجعات ريثما يتمّ تعديل قانون إنشائه وتعيين خمسة أعضاء جدد مكان الأعضاء الذين انتهت مدّة ولايتهم. ومعهم، نامت الطعون المقدّمة، إلى أن عاد الدم يدب في شرايين المجلس في أيّار 2009، ليكون القرار الأوّل هو ردّ الطعون الـ11 لأنّ ولاية المجلس انتهت أصلاً.

عاد المجلس إلى العمل ولكن ليس كما كان عليه الأمر في السابق. هذه المسألة لا تقتصر على عدد الطعون، بل على عمل المجلس ككلّ. إذ يؤكّد وزير العدل السابق شكيب قرطباوي أن مسؤوليّة انخفاض الانتاجيّة لا يتحمّلها المجلس بل هي من مسؤولية الرؤساء والنوّاب والوزراء ورؤساء الطوائف الذين لا يقدّمون الطعون، بالرغم من أن هناك العديد من القوانين غير الدستوريّة التي تمرّ.

يدرك الوزير السابق أنّ المؤسسة القضائية الأهمّ بحاجة إلى «نفضة شاملة»، قد تبدأ بتغيير عقليّة القوى السياسيّة بأهمية هذه السلطة، ولا تنتهي عند تعديل تشريعي لعمل المجلس.

التعديل الأوّل، حسب قرطباوي، يمسّ بالمهام المناطة بالمجلس، أي إعادة الحق للمجلس بتفسير الدستور، وتعديل حصريّة تقديم الطعون بقوى محدّدة لكي يكون المجلس هو فعلاً السلطة الرقابية الأعلى في الجمهورية اللبنانيّة. ويسأل: «لماذا يبقى الطعن محصوراً بالرؤساء والنواب والوزراء ورؤساء، ولا نفتح الباب أمام هيئات منظّمة ومسؤولة في المجتمع المدني كنقابتي المحامين وغيرهما للتقدم بالطعون إلى المجلس»، مذكراً بأن «نقابتي المحامين لطالما طالبتا بذلك خلال الأعوام الماضية».

أما على مستوى عمل المجلس الفعلي، فالمآخذ لا تعدّ ولا تحصى. «ذكرى التمديد الأوّل» ما زالت ماثلة في الأذهان: تغيّب عدد من أعضاء المجلس الدستوري للنظر في الطعن المقدّم بشأن التمديد في العام 2013، وقبله تعطيل جلسات المجلس بين الأعوام 2006 و2009.

بالنسبة لعدد من القانونيين، فإن هذين النموذجين يؤكّدان أنّ المجلس الدستوري الذي كان دوره «حماية الأقليّات» داخل المجلس النيابي صار صورة طبق الأصل عن «ساحة النجمة». بمعنى آخر، يفسّر هؤلاء أن القوى التي ليس لديها أكثرية حقيقية لإجهاض قانون تعتبره غير دستوري، تتوجّه مباشرةً إلى المجلس الدستوري للبتّ به. أمّا اليوم، فالأمر مختلف، إذ يشدّد المعنيون، وبينهم قرطباوي، على أنّ «بعض أعضاء المجلس الدستوري يغلّبون التبعية لمرجعيتهم السياسية أو الطائفية على معيار احترام الدستور والقوانين»، لافتين الانتباه إلى أن «التمديد الأوّل ضرب صورة المجلس الدستوري، الذي كان دوره حلّ بعض الأزمات، ليتحوّل هو في ما بعد إلى أزمة قائمة بذاتها، ومطابقة لأزمة النظام ككلّ».

ويؤكّد عضو سابق في المجلس أنّ آلية التعيين تجعل من بعض أعضاء المجلس الدستوري يتصرّفون «كموظفين عند المرجعيّة (السياسية أو الطائفيّة) التي سمّتهم وليس كخبراء دستوريين».

يتذكّر العضو نفسه قول خبير دستوري فرنسي بما معناه: «عندما أنظر إلى القوانين أمامي، أنسى من الذي عيّنني». بنظره «بعض أعضاء المجلس ضربوا بهذه المقولة عرض الحائط بعدم قطع «حبل السرّة» مع السلطة السياسيّة، بل التأثر بها والتناغم معها إلى حدّ تسييس المجلس الدستوري وتعطيله».

كيفيّة حلّ ثغرة «المحسوبيات والمحاصصة» داخل المجلس؟ يرى قرطباوي أن الحلّ هو في تغيير آلية التعيين، إذ نصّ قانون تأسيس المجلس في العام 1993 على أنّ المجلس «يتألف من 10 أعضاء يعيّن المجلس النيابي نصف الأعضاء بالغالبيّة المطلقة من عدد أعضائه ويعيّن مجلس الوزراء النصف الآخر بأكثريّة ثلثي أعضاء الحكومة».

أمام هذه المآخذ، يقف رئيس المجلس الدستوري عصام سليمان في وسط العاصفة، حتى يكاد يردّد المثل العامي: «اللي بدّك منو شويّ أنا بدي منو مية»، من دون أن ينكر الأزمة التي تضرب المجلس. إذ يقول لـ«السفير»: «إذا كانوا يريدون تعديل النظام الداخلي، فأنا أيضاً أطالب (سيعلن عنها رسمياً في مؤتمر للمجلس سيعقد الجمعة في فندق الحبتور) بتعديل نظام المجلس: تعديل آلية التعيين والنصاب المطلوب والأكثرية المطلوبة لاتخاذ القرارات، وتوسيع صلاحياته..»، مذكراً بـ«معركة التمديد» ووقوفه في وجه القوى السياسية المؤيدة للتمديد.

يرفض سليمان مقولة «مجلس عاطل من العمل»، ويشير إلى أن «المجلس الحالي اتخذ الكثير من القرارات نسبةً للمجالس السابقة، كما أن المجلس ينتظر من يقدّم إليه الطعون، ولا يمكنه التحرّك دون ذلك».

في عيده الـ19، ذبح المجلس «قرباناً» للتمديد. وفي عيده الـ20، قد يعيد التاريخ نفسه، بالرغم من تأكيد سليمان، خلال مؤتمر صحافي عقده أمس في مقر المجلس وسرد خلاله أهم القرارات والطعون التي أصدرها، «أنني أتعهد أنه لن يتعطّل النصاب مرة ثانية في المجلس الدستوري».

يعرف المعنيون أن الأمر صعب المنال، ويشيرون إلى أن «حضور غالبية الأعضاء يعني فكّ الارتباط بالقوى السياسية المؤيدة للتمديد، ويعني قبول الطعن بالتمديد، ويعني أنه في ظلّ انتهاء المهل دخول البلد في الفراغ الكامل، متسائلين: «هل للمجلس ترف القرار؟».