IMLebanon

لبنان في مواجهة كورونا الوباء وكورونا السّلطة

 

ذكرى مرور سنتين على مَهزلة «تعليم واشنطن ولندن إدارة دولهم من دون موازنات»

 

إذا كان كلّ الكلام قد مات في وصف ما وصلت إليه الأمور من بؤسٍ وضحالةٍ وانسدادٍ في لبنان، فإنّ المُخيلةَ قد انتحرت أيضاً في وصف التبريرات التي يقدمها فُجّار السلطة لسلوكياتهم الوقحة في تجاوز الدستور وتدمير السيادة وقتل الشعب وفشل الإدارة.

 

الارتفاعُ المتزايد في أعداد الإصابات والوفيات بفيروس كورونا، في مقابل الإمعان بالكلام المنمق، واللجان المتضاربة، والإجراءات المنقوصة.. كلّه يعكس الارتباك الرسمي الناتج عن غياب سياسة وطنية صحيّة عامة منذ أكثر من سنة في مواجهة الجائحة التي تضرب العالم، ولبنان جزء منه، مع فارق أن الكون يواجه الجائحة بكثير من الإصرار والتحدّي والإجراءات والمبادرات، فيما لبنان وشعبه متروك للرزوح تحت طبقاتٍ من الأزمات الصحيّة والماليّة والاقتصادية والاجتماعية والحياتيّة… وفوقها سلطة فاشلة وقاتلة ومهملة.

 

قالت الثورة في أدبياتها وبياناتها الكثير الكثير عن السيادة المسلوبة، والهيمنة المرفوضة، والسلاح العبثيّ، وتخطي الدستور.. ولا ينبغي الإكمال بذات المنطق إلى ما لا نهاية

 

 

نقطة بيضاء وسماجة سوداء

 

تبدو معركة مواجهة كورونا شديدة الدلالة عن الواقع اللبناني المهترئ؛ منذ استفحال الوباء، أي من يوم مقولة أحد الجهابذة «لا داعي للهلع» فالسماح لكل الطائرات الآتية من البلدان الموبوءة بالمجيء إلى لبنان، إلى القرارات المتضاربة والإقفالات الجزئية، مروراً بحفلات الدبكة ورأس السنة برعاية رسمية، وصولاً إلى وعود اللقاح المنتظر.. اتسم الأداء الرسمي بالعشوائية والخفّة والتسرّع والغَرَضية والتذاكي الذي يهدف إلى الإفادة من المآسي للنهب والتربّح وتحقيق المكاسب، ولو على حساب الشفافية والأخلاق ومنطق الدولة.

 

وعلى فشل السياسات الرسميّة العرجاء، تريد قطاعات عدّة التعويض عن خساراتها بفعل الوباء والإقفال، كلٌّ على طريقته.. والشاطر بشطارته.

 

وتستغل مافيات التهريب الإقفال العام وتغرق حتى الثمالة بجرائمها من كلّ الأنواع.. «لا مين شاف ولا مين دري».. وهكذا.

 

وبالتوازي مع انهيار النظام الصحي والاستشفائي الرسمي، تبدو المستشفيات الخاصة وشركات الأدوية ومستوردو المستلزمات الطبية وكأنهم في سباق مع فرصة الإفادة من الجائحة لمراكمة المزيد من الأرباح، بعدما اعتاشوا على النهب المنظّم للمال العام، والدعم الرسمي لسعر الدولار وحققوا على مدى عقود أرباحاً خياليّة.

 

على أن المهم في مسيرة النجاح الوطني العظيم للسلطة في إدارة الأزمة، هو خبرية اللقاح. تكرر الإعلان أكثر من مرّة عن توقيع اعتمادات لشراء اللقاح، وعن مفاوضات قائمة مع شركات ومنصّات.. وتكاثرت الأخبار عن بطولات وهمية أمام شعب منهك ومرعوب وجائع.. وحتى الآن لا دلائل أو معطيات أن اللقاح آت أو بات في حكم مؤكد الوصول!!

 

وإذا كان سعي المسؤولين للاستحصال على اللقاح أقلّ واجباتهم، فإن وجود خطّة وطنية شفافة لتوزيعه وضمان وصوله إلى الجميع ضروري أيضاً، فثمة مخاوف حقيقية من أن تتحول عمليات تلقي اللقاح شأنا طبقياً، أو ترمى في زواريب الفساد والسمسرات والمحسوبيات.. إن غياب البعد الأخلاقي في الأداء الرسمي تجاه الأزمة، لمصلحة غلبة الاستعراض أمام الكاميرات (ولو من على أسرّة المستشفيات) يرسم شكوكاً مبرّرة وضرورة.

 

أما والحال هذه من السواد والبؤس، يبدو فراس الأبيض ومعه ثلّة من جيشٍ أبيض بطل، لوحدهم، ببسالتهم وجرأتهم وتواضعهم، نقطةً بيضاء تعطي الأمل في المواجهة القائمة.

 

مسرحُ التراجيديا السوداء

 

المشهد في لبنان مسرحٌ تراجيديّ كبير، يَعتليه مَن يشاء، لتمثيل ما يَحلو له، ويتفوّه (أمام الكاميرات أحياناً) بكلِّ خفيف وغيرِ مسؤول! هل نبكي أم نضحك على تصريحات من يفترض أنهم حُماة للدستور، أو في سدّة المسؤولية؟ السطحيّ والخبيث والوقح في كلامهم انعكاسٌ صارخٌ لحقيقة أن الأمور في لبنان تدار وفق ذهنية مريضة بالفساد والزبائنية لا السياسات والمصالح. منذ أن حلّ وباء كورونا كان الموقف الرسمي، تكراراً لنهج ثابت في السياسات العامة في لا مسؤوليته وخفّته، «لا داعي للهلع» البلد بخير، (على وزن الليرة بخير)، في القضايا النقدية والمالية، وفي القضايا الصحية والحياتية، وفي القضايا الهامشية والمصيرية.. وكل ذلك أوصلنا إلى الهاوية.

 

لم يشهد لبنان في تاريخه المعاصر توحّشاً سياسياً وطائفياً ومافيوياً وسلطوياً، وتعبئة عنصرية، ومحاصصة وتمييزاً وفساداً، كما شهد عهد التسوية البغيضة التي أفرزت أزمة مستفحلة تكاد تتسبب بحرب أهلية، وانهياراً للدولة؛ بتنا بلداً معزولاً ومفلساً وجائعاً وموبوءاً!! من دون أن ينجح هؤلاء بحل أزمة واحدة فقط، وكل ذلك برعاية «العهد القوي»! لبنان يعاني من تفشي «كورونا سياسية» جعلت من العمل السياسي والعام وباًء مستعصياً، صعبَ الشفاء.

 

كورونا السياسة.. أخطر وأخبث

 

قبل سنتين تماماً، في 2019، قال الوزير الذي أخرجته الثورة من جنّة السلطة وعاقبته الإدارة الأميركية على فساده، جبران باسيل، بوقاحة ومن دون خجل: «ربما علينا أن نعلم واشنطن ولندن كيف يديرون بلداً من دون ميزانية»… وفعلاً أوصل هذا الشخص ورعاته البلد إلى حضيض الدول وإلى قعر جهنم. اليوم، لا يجوز الاكتفاء بالتحسّر وتوصيف المشكل، من دون المبادرة وانتزاع الحقوق. ولا يجوز أكثر ترك العالم يتفرج على جريمة القتل الجماعي للشعب اللبناني من دون دفعه لمساعدته على تحرير بلده، وإقناعه فوق ذلك أن في تحرير لبنان وشعبه مصلحة وطنية وعربية وإقليمية ودوليّة.

 

قالت الثورة في أدبياتها ووثائقها وبياناتها الكثير الكثير عن السيادة المسلوبة، والبلد المخطوف، والهيمنة المرفوضة، والسلاح العبثيّ، وعن تخطي الدستور والتنكّر للطائف.. ولا ينبغي الإكمال بذات المنطق إلى ما لا نهاية، فالمنظومة المتحكّمة مرتاحة أكثر من أي وقت مضى، وتتلذّذ بابتزاز الداخل والخارج في أكثر من ملف وقضية ومبادلة. المطلوب عاجلاً من القوى المجتمعيّة الحيّة نقلة نوعية في اعتراضها ورفضها وتمردها وصناعتها للتغيير.. الخطوة الأولى مهمّة وبعدها يبنى على كل تطوّر ما يستحقه من سياسات.