IMLebanon

زوجان مصابان يرويان من الحجْر الأعراض والمشاعر

 

حين يُستمدّ من الضعف قوّة

 

دائما هناك أمل بأن يكون لنا في الغيب شيء جميل ويستحق منا الإنتظار…وها هو أ. ولنسمه “إنسان” يبتسم وهو يُخبر رحلته وزوجته ق. ولنسمها “قلب” مع “كوفيد 19” من الألف الى اللحظة الى الشفاء المرتقب الى الأمل الهائل الكبير…

هي قصة حقيقية تُجيب عن ألف سؤال وسؤال ننام ونستيقظ ونحن نطرحها، في قرارة أنفسنا، على حالنا في هذه الأيام: ماذا يشعر حقا المصاب؟ ماذا يشعر هو وزوجته إذا أصيبا معا؟ بنهاية الدنيا؟ بالقدر؟ بالمسؤولية؟ بالتحدي؟ وكيف يواجهان معا؟ وهل صحيح أن الإنسان سيبقى أقوى من كل فيروسات الأرض؟

 

“إنسان” شعر بألم بسيط في الظهر والكتفين في حين كانت “قلب” الخارجة للتوّ من كريب أدخلها الى المستشفى منذ أسبوعين بلياليهما وهي تشعر بآلام جمة في كلِ أنحاء جسمها، آلام أقوى من أي “كريب” سبق وواجهته. فكّرت كثيراً: هل هو كورونا؟ هل انضمت الى لائحة المصابين بهذا الفيروس. كان هذا نهار الإثنين الماضي. وكان طفلها في بيت جديه وهي و”إنسان” كانا يتخيلان أشياء كثيرة. اتصلت بطبيب العائلة وأخبرته عن حالها فقال لها: إذهبا الى المستشفى، أنتِ وزوجك بسرعة. وكان ما كان.

 

فلنستمع إليهما بتفاصيل غير مملة. تقول “قلب”: بدأت الآلام تجتاحني فجأة، بعيد يومين من توجهي الى مصرف في نطاق منطقة بكفيا لسحب بعض المال من جهاز الصراف الآلي، وأعترف أنني لم أكن أرتدي قفازات، لم أكن مستهترة لكنني لم أظن أن الفيروس سينتقل إليّ بهذه السهولة. شعرتُ بأعراض شتّى، بآلام حادة في ظهري وفي الكتفين وفي صدري والمفاصل وبدأت سعالاً لم أعهده من قبل وأتمنى ألّا يشعر به أحد. هو سعال جاف بلا بلغم يخرج بقوة، وكأنه نار، مقروناً بضغط هوائي هائل جعل جسمي كله يرتجف و”يتفكفك”. وارتفعت حرارتي الى أكثر من 9 ونصف. فكرنا انا و”إنسان” بالكورونا. ألحت الفكرة كثيراً علينا. اتصلنا بمستشفيي أوتيل ديو ورزق من أجل القيام بالف فطلبوا منا النزول الى الطوارئ وإجراء ثلاثة فحوصات أولية هي: فحص دم وصورة صدرية وسكانر. قلنا لهم: نريد إجراء فحص كورونا بسرعة فردوا: إذهبوا الى مستشفى رفيق الحريري. ذهبنا الى وحدة كورونا حيث أجروا لي الفحص أما زوجي فلا لأن لا أعراض عليه. وعدنا الى البيت لنحجر أنفسنا.

 

كانت “قلب” خائفة كثيراً. توقعت رسالة ما، اتصالاً ما يُخبرها بأن نتيجتها إيجابية لكن يوم أتاها الإتصال إنقلبت الدنيا رأساً على عقب فوق رأسها. اتصلت بها إحداهنّ من مستشفى رفيق الحريري الجامعي وقالت لها بلا مقدمات: مدام نتيجتك إيجابية. لا تتذكر “قلب” أي شيء بعدها. أقفلت الهاتف. تهاوت على الكنبة. وتوقفت لديها كل الأحاسيس. لحظات كما لو كانت عمراً. بكت ربما وربما لا. لا تتذكر سوى أنها اتصلت بزوجها وأخبرته: نتيجتي إيجابية. هوى هو. رهيبة ٌ هي هذه اللحظات. رهيبٌ أن يعرف الإنسان، أيّ إنسان، أنه انضمّ الى اللائحة. قوّته أعطته معنويات. قالت له: هي محنة وستزول وهو “كريب” قاسٍ قليلا لكنه سيزول.

 

هو مصاب؟ “قلب” مصابة أيضا؟ هو يشعر ببعض التوعك وبقليل من الألم لكنه لم يجرِ الفحص. نصحوه أن يبتعد عنها فقال لهم: سنبقى معا في حجرٍ واحد، في منزل واحد، في السراء والضراء. وها قد مضى عليهم أياما وهما واحد.

 

تتحدث “قلب” بقلبِها قبل الشفتين واللسان والصوت لكن مع كثير من السعال. تبدو تعبة لكنها إمرأة قوية. وقوة “قلب” مبعثها القلب. هي تصرّ على الحراك وعلى إتمام “شغل البيت” بنفسِها، كما نصحها طبيبها كي تُحرك دورتها الدموية ويدها بيد زوجها. وهو يصرّ على ان يكون لها السند الآن أكثر من أي أوان.

 

دواؤها حبة بنادول. وهو يتناول نفس الدواء. وفي المستشفى قالوا لهما إنهما لن يعوزا، لا هما ولا غيرهما، مستشفى إلا إذا شعرا بضيق في التنفس. وبالأمس وصلتها رسالة مكتوبة من مستشفى رفيق الحريري: حضرة السيدة… المحترمة، نود تذكيركم بضرورة متابعة الحجر المنزلي لمدة 14 يوماً من تاريخ إجراء التحليل وكلّ من تمّ الإحتكاك بهم خلال الفترة الأخيرة. كذلك يرجى عدم التوجه الى المستشفى إلا في حالة صعوبة التنفس أو تدهور الحالة الصحية العامة. لأي إستشارة طبية، يرجى الإتصال بمستشفى رفيق الحريري الجامعي. بالوعي نحمي وطننا.

 

واعية ٌ هي جدا. هو واع أيضا. يراقبها وتراقبه. ويعدّان الطعام معا ويتناولانه معا مع حرصها الدائم على إبقاء مسافة بينها وبينه. فلربما هو غير مصاب، ربما هو لم يصب، تردد هذا له وهو يبتسم لها.

 

تفاؤل “قلب” يتقلص حيناً لكنه سرعان ما يعود قوياً. الفيروس أفقدها شهيتها وخسرت في يومين كيلوغرامين وهو يمازحها بالقول: لم أعد أعرفك. لم تعد تطيق رائحة الدجاج واللحوم والسمك وتتقبل تناول “عدس بالحامض” والكشك السائل والحساء بالخضار. فقدت حاسة الذوق. تأكل ولا “تستطعم”. وأهل “إنسان” يجلبون لهما الأغراض والمكونات، يضعونها أمام الباب ويغادرون. وهي وهو يطهيان. هي لا تتمكن من الوقوف على قدميها أكثر من عشر دقائق وهو يتابع ما تبدأه.

 

هي فترة صعبة وستمرّ. هي وهو موقنان من هذا غير أن ما يقلقهما هو كيف سيعودان الى المجتمع؟ كيف سيتقبلهما المجتمع ذات يوم قريب بعد أن ينهيا الحجر؟ ثمة تنمر كثير في الموضوع والمريض، نكرر المريض، يشعر بنفسِهِ منبوذاً. وكم يكون صعباً حين يقترن الألم مع النبذ؟ وحين يكون المتألم بحاجة الى التعاطف ولو من بعيد الى بعيد؟

 

يُكثر “إنسان” و”قلب” من غلي عشبة الكينا التي تريحهما. وهو يتنشق معها لهيب العشبة. ويحرصان على تهوئة البيت، في المتن الشمالي الأوسط، يومياً. ويستخدمان الكلور والمياه والصابون في التعقيم والتنظيف. الفيروس يخاف من الكلور.

 

هما يمنحاننا الأمل والتفاؤل بدل أن نفعل نحن. تبتسم وهي تُخبر تجربتها لكن حين يشتدّ السعال عليها تتريث قليلا لتعود وتُخبر عن الحرارة التي لا تزال تعاني منها، ترتفع لتعود إلى الهبوط. الحرارة تتلاعب كثيراً أثناء النهار والليل وهذا دليل ان جسمها ينشط من أجل القضاء على الفيروس.

 

ولدهما يتصل بهما على وقعِ الثواني. وهي، من حجرها، تحرص على تدريسه أونلاين. تنظر في عينيه وتردد: فترة وستقطع. هي فترة، فترة صعبة، لكنها ستعبر. وبالأمس، بينما كانا يتسامران هي وهو قالت له: قولك كيف سأواجه أول شخص ألتقيه بعد أن تنتهي “تجربتنا”؟ تُرى، هل سنجرؤ على تقبيل ولدنا؟ يبدو أن ما هو أصعب من العدوى تجاوزها.

 

“قلب” و”إنسان” يتعلمان الكثير في حجرهما. هما تعلما في أسبوع ما لم يتعلماه كلّ العمر. هما يفكران صبحاً ومساء كم هي ذات قيمة التفاصيل الصغيرة في الحياة. كم جميل أن ينهض الإنسان ويرتدي ثيابه ويذهب الى عمله. وكم جميل أن يحضن الإنسان ولده بين أضلعه ويشعر بنبضات قلبه. التجربة تعلّم. وثمة تجارب يضعف فيها الإنسان لكن حين يخلق هذا الإنسان من تجربته قوّة يكون قد انتصر.

 

“إنسان” و”قلب” يعيشان تجربة “كورونا” وهما نجحا في تحويلها الى قوّة. أما الناس، عموم الناس، الذين ينظرون الى مرض “كورونا” وكأنه مسخٌ فغير مدركين أن لا أحد فوق رأسه خيمة.

 

“الله لا يجرب حدا”. ينهي “قلب” و”إنسان” الإتصال بهذه الدعوة. ويزيدان: لا بُدّ أن يشرق الضوء في آخر النفق.