IMLebanon

أزمة خيارات إصلاحية أم أزمة صلاحيات بين القيادات الدستورية؟

 

يواجه لبنان استحقاق الإصلاحات المطلوبة في مؤتمر «سيدر» من خلال البحث في اعتماد خطة تقشفية في موازنة عام 2019، محاولاً بذلك التعويض عن كل الأخطاء التي ارتكبتها الحكومات المتعاقبة منذ ثلاثة عقود.  غابت الموازنة مع كل ما تفرضه من ضوابط على الإنفاق العام، بالإضافة الى استشراء آفة الفساد السياسي والإداري في الدولة ومؤسساتها، وهذا ما انعكس سلباً على المالية العامة من خلال تراكم العجز المالي، وتغطيته من خلال الاقتراض الداخلي والخارجي بفوائد مرتفعة.

نحن أمام معضلة مالية لا بد من العمل على مواجهتها قبل تحوّلها الى أزمة تضع لبنان على طريق الإفلاس. لكن، لا يجب القبول بمنطق تسويق الأزمة على أنها أسوأ من الأزمة التي واجهتها اليونان قبل سنوات، بالقول جزافاً بأن نسبة الدين العام على الناتج المحلي قد تعدت 200 بالمئة. هذا كلام تشاؤمي، يهدف الى تثبيط العزائم، ولا يمكن القبول به، حيث يحاول أصحابه فتح صندوق كل الشرور «Pandora Box» في وجه اللبنانيين، في الوقت الذي ما زالوا يمتلكون القدرات اللازمة للخروج من المأزق الراهن من خلال اعتماد إجراءات إصلاحية لضبط الإنفاق ووقف الفساد.

من المؤكد أن جميع اللبنانيين باتوا يشعرون بأثقال الازمة الاقتصادية والمالية، وهم يدركون بأنها لم تعد أزمة عابرة، وبأنها تستوجب البحث جدياً لإيجاد المخارج اللازمة لها قبل فوات الأوان. لكن، يبدو بأن الحكومة التي وعدت في بيانها الوزاري باعتماد خطة إصلاحية (تبدأ من موازنة عام 2019) تحقق ما هو مطلوب من إصلاحات في مؤتمر «سيدر»، ما زالت تتمهل في عملها، بحجة ضرورة تأمين التوافق السياسي بين مكوناتها حول الخيارات المتاحة.

في رأينا كان من الطبيعي ان يثير هذا التأخير الحاصل لعرض الموازنة على مجلس الوزراء حفيظة رئيس الجمهورية، لتوجيه هذا النقد اللاذع للمتأخرين عن تأمين التوافق المطلوب لاقرار الموازنة، ورفعها الى مجلس النواب بعد انقضاء أربعة أشهر من السنة وقبل شهر واحد من مهلة إقرارها في 31 أيار.

يستدعي إقرار الموازنة أن يتعالى الجميع فوق الحساسيات التقليدية حول الصلاحيات ووجوب احترامها من قبل القيادات وفقاً لنصوص دستور الطائف، خصوصاً وأنه لم يعد من الحكمة تأخير حصول مثل هذا التوافق الذي يسعى رئيس الحكومة اليه منذ أشهر، وعلى ضوء الشروحات التي قدمها وزير المالية للأفرقاء الذين شاركوا في اجتماعات بيت الوسط.

لقد بات من الضروري والملح الخروج بتصور واقعي لعملية ضبط الانفاق في جميع أبواب الموازنة باستثناء باب رواتب الموظفين والتي تقل عن ستة ملايين ليرة شهرياً.

لم يعد من الممكن الاستمرار في هذا الترف من «النقاش الشعبوي» من على مختلف المنابر السياسية في موضوع ضبط الانفاق في الموازنة، حيث بات من الملح التجاوب مع دعوات رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب لاستعجال إقرار الموازنة في ظل الاستحقاقات الراهنة، سواء لجهة التوقيت أو لجهة السير قدما بالإجراءات الإصلاحية الموعودة.

لا بد ان يدرك الرئيس الحريري ومعه كل القوى السياسية بأن الاستمرار في الحوار البطيء لن يؤمن الدواء الشافي لكل الأمراض «Panacea» التي يشكو منها لبنان، وبأنه لا بد من اعتماد خيار واقعي يجمع ما بين عصر النفقات بالتوازي مع إجراءات مالية تشارك فيها المصارف (بقسط واف) من اجل خفض كلفة الدين العام، والتي توازي مع الرواتب مجموع واردات الموازنة.

لا يمكن النظر الى عملية الإصلاح المالي بطريقة مجتزأة، وبالتالي تحميل اثقالها ونتائجها للموظفين وأصحاب الدخل المحدود، بل يجب أن تأتي واسعة وشاملة فيتحمل الجميع قسطهم منها، وفق أعلى معايير العدالة، ومع تطبيق فعلي وصارم للقوانين. اذا كان المطلوب ولوج هذا الباب الإصلاحي من خلال الموازنة فإن عصر النفقات لن يقدم سوى قدراً بسيطاً من التوازن المطلوب بين العائدات والنفقات. يتطلب الامر ان لا يكتفي مجلس الوزراء بإقرار موازنة تقشفية بل أن يقر سلة إصلاحات واسعة تتناول التهرب الضريبي وتحسين العائدات الجمركية ووقف التهريب عبر المرافئ والمطار والمعابر الحدودية بالإضافة الى فرض الإجراءات اللازمة على المصارف لخفض خدمة الدين العام، مع ضرورة عدم زيادة الضرائب والرسوم بما فيها الرسم على القيمة المضافة والمحروقات الى ما بعد إطلاق خطة «سيدر».

في النهاية تستوجب خطورة الأوضاع الاقتصادية والمالية التي يواجهها لبنان التساؤل عن مدى قدرة القيادات اللبنانية على حزم خياراتها لإقرار رزمة من الإجراءات الإصلاحية المؤلمة وعدم الاستمرار في مقاربتها التقليدية في إضاعة الفرص من خلال الغرق في إثارة الحساسيات حول الصلاحيات بين مختلف القيادات الدستورية.