IMLebanon

عُرس في المختارة

 

منذ مئة عام أو أكثر لم يشهد قصر المختارة مثل هذا العرس. لم يكن منظراً مألوفاً في السياسة اللبنانية والحياة الإجتماعية والعائلية أن يمشي وليد جنبلاط ممسكاً يد ابنته داليا وينزل معها درج القصر كأي والد وأن يسلّمها إلى عريسها جوي بيار الضاهر وسط تصفيق الجمهور الذي دعي للمشاركة في هذا العرس.

 

منذ أيام بشير جنبلاط والقصر يشهد أحداثاً تاريخية من الحياة اللبنانية ولكنه لم يشهد عرساً. ليس من المألوف أن تشهد مثل هذه الأمكنة ما يشبه هذا الحدث. على العكس شهد هذا القصر الكثير من المآسي والأحزان ولكنه بقي قصراً فوق احتفال من هذا النوع، قصراً شاهداً على أحداث تاريخية ارتبطت بسيرة عائلة وسيرة طائفة وسيرة وطن قبل أن يكون وبعدما صار.

 

في ظل كمّ كبير من المآسي فتح عرس المختارة صفحة جديدة في كتاب القصر. في تلك الساحة التي كانت تصدح فيها موسيقى وأغاني الفرح الغربية والكلاسيكية ويعلو التصفيق بينما كان وليد جنبلاط ينزل الدرج مع داليا كانت تطوى صفحات من درج طويل مشاه جنبلاط وآل جنبلاط درجة درجة في سلم التاريخ والذاكرة بما فيها من أحداث معظمها أليم.

 

في تلك الساحة التي تظلّلها أشجار شاهدة وقف وليد جنبلاط في آذار 1977 ليشهد مع طيف كبير سياسي وديني الوداع الأخير لكمال جنبلاط الذي قضى اغتيالاً في 16 آذار من ذلك العام. حزيناً وغاضباً وسارحاً في مجهول مضى ومجهول آتٍ كان وليد جنبلاط مستسلماً لاستكمال طريق الوراثة السياسية والعائلية عندما كان شيخ عقل الطائفة محمد أبو شقرا يلبسه العباءة ويعلن أنه سيكمل ما بدأه الـ»كمال». كان عمره 28 عاماً فقط. لم يعش في القصر طفولة هادئة ولا رافق صعود كمال جنبلاط السياسي والطائفي بكل أبعاده الفكرية والحزبية والمحلية والعالمية من الإطار الدرزي الديني والسياسي إلى البعد الآخر الذي لا يشبه الطائفة ولكنه لا يخرج منها ولا عليها ويبقى سيدها من دون منازع في ظل هيبة العمامات والقيادات الدينية. بدا وليد جنبلاط في تلك اللحظة كأنه غريب في مشهد لم يألفه ولم ينتظره ولكنه منذ تلك اللحظة انخرط فيه وأصبح أسيره.

 

قبل أن يلبس وليد جنبلاط تلك العباءة كان خارج المختارة. قليلون الذين يعرفون قصة زواجه الأول من الممثلة الإيرانية التي تكبره عمراً. ذلك الزواج لم يبدأ بعرس في القصر وعاش خارجه. لم يكن كمال جنبلاط راضياً عنه كما يقال وهو انتهى بطريقة مأساوية دخلت طي النسيان وبالكاد تذكر.

 

حتى كمال جنبلاط عندما تزوج مي أرسلان والدة وليد لم يكن زواجه عرساً. كان أقرب إلى زواج سياسي. قبل أن يتقلّد الزعامة الجنبلاطية والدرزية ويصير سيد القصر عاش كمال جنبلاط أيضاً طفولة وشباباً قلقاً. قتل والده فؤاد في العام 1922في 6 آب في حادث بقيت أبعاده غامضة وإن كانت أحداثه معروفة حيث قيل إنه حصل عن طريق الخطأ. كان ذلك قبل مئة عام دخلت فيها الأحزان إلى القصر الكبير بعدما لم يكن شفي من مرحلة أحداث 1860 ومن النهاية التي عرفها بشير جنبلاط قبل ذلك بخمسة وثلاثين عاماً في صراعه مع الأمير بشير الشهابي. على مدى أربعين عاماً تقريباً عاش القصر في ظل الست نظيرة جنبلاط والدة كمال التي كان لها دور كبير في الحفاظ على البيت والقصر والزعامة حتى وفاتها في 27 آذار 1951 ليرث بعدها كمال جنبلاط الدور والمهمة وكتاب التاريخ بينما لم يكن عمر ابنه الوحيد وليد قد تجاوز الأربعة أعوام.

 

ليس معروفاً أن كمال جنبلاط أقام عرساً. لم يخرج في زواجه الرسمي عن التقاليد الدرزية. زوجته مي شكيب أرسلان تنحدر من زعامة درزية ثانية كانت لها أدوار عربية وعثمانية وغير درزية. عندما اغتيل كمال جنبلاط كانت تعيش في القصر إلى جانبه سيدة أخرى. وكانت زوجته في باريس. أمام المصاب الكبير والمأساة العائلية المتراكمة على مدى الزمن اتصل وليد جنبلاط الذي كان يعيش خارج القصر بمروان حماده وطلب منه إحضار والدته من باريس لتكون في المختارة.

 

ورث وليد جنبلاط الزعامة وهو لم يكن مستعداً لهذه اللحظة التي أتته على عجل ولكنه استطاع أن يعبر المرحلة. كان يعرف جيداً أن النظام السوري بقيادة حافظ الأسد هو الذي اغتال والده ولكنه على رغم ذلك اختار أن يبدأ طريقه بالذهاب إلى دمشق ومقابلة الأسد. انتظر 28 عاماً حتى فجّر كل مكبوتاته ضد هذا النظام بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 وقبله بعد محاولة مروان حماده في أول تشرين الأول 2004.

 

لم يرزق وليد جنبلاط بأولاد من زواجه الأول الذي لم يكن والده راضياً عنه. بعد أربعة أعوام على اغتيال والده تزوج السيدة جيرفيت الأردنية الأصل. كان عليه بمونة من والدته أن يرتضي بأن يؤسس عائلة وبأن يكون له وريث. هاجس الموت غير العادي كان يشكل قلقاً كبيراً للعائلة. بحكم موقعه السياسي وزعامته للطائفة والعائلة والقصر وبحكم مقتل جده واغتيال والده كان لا بدّ من تأمين الوراثة العائلية بسلاسة وانسياب. أحياناً تنحني الإرادات لمشيئات قد لا يريدها صاحبها ولكنه يقبلها.

 

ستة أو سبعة أعوام استمرّ زواج وليد جنبلاط وجيرفيت رزقا خلالها بأولادهما الثلاثة تيمور 1982 وأصلان 1983 وداليا 1986. لم يكن هذا الزواج متوافقاً مع التقاليد الدرزية ولكنها لم تحل دونه. إرادة الزعيم هنا تتخطى التقاليد. صحيح أن وليد جنبلاط لا يخرج عن سلطة رجال الدين الدروز الذين يبقى لهم التأثير الكبير على مصير الطائفة وعلى تقاليدها الدينية والإجتماعية التي تمنع من ضمن ما تمنعه الزواج من خارج الطائفة ولكن أيضاً لا يعني ذلك أن وليد جنبلاط لا يستطيع أن يخرج عن هذه السلطة بهدوء يمكنه أن يستوعبه. والعكس صحيح أيضاً لا يمكن أن تخرج الزعامة الدينية من تحت عباءة الزعامة السياسية. بين الزعامتين تكامل وإن لم يكن كاملاً.

 

في زواجه الثاني من نورا جنبلاط لم يكن وليد جنبلاط أيضاً أسير الزعامة الدينية والمذهبية. كان يعرف أن هناك من يعارض هذا التوجه لديه ولكنه متى قرر فعل مدركاً أنه يستطيع أن يستوعب أي اعتراض. ذلك الزواج أيضاً لم يكن عرساً في قصر المختارة. لم يتم التوقف كثيراً عند تفاصل الإنفصال في الزواج الثاني وعند تفاصيل الإرتباط في الزواج الثالث وإن كانت صدرت انتقادات من داخل الطائفة على قاعدة السؤال لماذا يحق للزعيم ما لا يحق لعامة الشعب الدرزي؟

 

كما والده كان وليد جنبلاط أسير الزعامة والبيت والقصر والطائفة وفي الوقت نفسه كان ويبقى أسير الرغبة بعدم العيش في أسر ما تتطلبه مهمة هذه الزعامة. كثيراً ما ينتقد التشدد الديني ولكنه لم يَدعُ في أي مرة إلى هدمه والتّمرد عليه. لعلّ هذا التشدد هو من أسباب الحفاظ على هذه الخصوصية التي تولّى وليد جنبلاط الدفاع عنها.

 

عندما تزوج ابنه تيمور من شيعية من آل زعيتر كان يواجه مثل هذه التجربة التي عاشها والده من قبله. هو أيضاً لم يكن أسير التشدد الديني الدرزي ولم يقم عرساً كبيراً في القصر. لذلك كان عرس داليا مسألة مختلفة تحتاج إلى الكثير من الجرأة التي تعاطى معها وليد جنبلاط بواقعية. ليس مألوفاً أن يقوم زعيم سياسي بمشية تقليدية ممسكاً يد ابنته مرافقاً لها حتى يسلّمها لعريسها. صورة الأب ليست مألوفة لا بل هي محطّمة ربما أمام صورة الزعيم. لا تتعلق المسألة بوليد جنبلاط بل بغيره أيضاً. كانت لديه الجرأة لمقاربة موضوع الزواج هذا من الناحية العائلية كما من الناحية التاريخية. ليس من السهولة أن يدخل هذا الباب من التاريخ. زواج داليا بماروني ليس مسألة عابرة ولكن جنبلاط عبرها.

 

ربما ليست داليا مضطرة إلى حمل عبء الصراع التاريخي بين الموارنة والدروز، هذا التاريخ الذي فيه أيضاً صفحات مشرقة تستحق التوقف عندها. وربما أيضاً ليس جوي بيار الضاهر مضطراً لحمل العبء نفسه. كان والده من ضمن فريق عمل قيادة القوات اللبنانية في حرب الجبل إلى جانب سمير جعجع. وكان وليد جنبلاط قطب هذه الحرب في صراع دامٍ لا يمكن أن يشفى منه التاريخ والذاكرة ولا يمكن نسيانه وإن كان من الممكن أخذ العبر لتجاوزه.

 

القبول بهذا الزواج يعني القبول بمراجعة تاريخية لكل هذا العبء الذي يلقيه التاريخ الأليم على عاتق العائلات والأجيال. وزواج داليا من ماروني كان والده شريكاً في الحرب لا يشبه زواج تيمور مثلاً من شيعية. الفارق كبير بين الحالتين والأشخاص.

 

هذا الزواج كانت له تعليقات سلبية كثيرة خصوصاً على صعيد الطائفة الدرزية الداخلي في استعادة لما قيل عن زواجات وليد جنبلاط نفسه لجهة لماذا يسمح للزعيم ما لا يسمح به لسائر أبناء الطائفة الذين يعانون حظر الزواج خارجها حتى لا يصيروا خارج الدين. زواج داليا هذا يمكن أن يشكل استثناء أيضاً ولكنه لا يمكن أن يصير قاعدة ذلك أن التقاليد الحاكمة لعلاقة الأفراد مع المنظومة الدينية تبقى أقوى من أن تفككها حالات من هذا النوع حتى لو كانت على هذا المستوى.

 

في تلك الساحة التي كانت تضج فيها الموسيقى الحالمة كان هناك حلم جديد يولد. حلم تحدث عنه وليد جنبلاط. في تلك الساحة وقف أيضاً في آب 2001 يستقبل البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير في محاولة لتحقيق مصالحة تتجاوز مآسي التاريخ وتفتح صفحة جديدة في العلاقة بين الموارنة والدروز. بعد 21 عاماً وقف وليد جنبلاط في عرس ابنته ليتحدث عن الأخطاء التاريخية وليستشهد بكلام المسيح «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر». قال جنبلاط متوجهاً إلى جوي وداليا، «قد تسمعان كلاماً مغرضاً أحياناً أو جارحاً من خلالِ الهمسِ عبرَ التخريب الاجتماعي أو ما شابه. لا تكترثا. أنتما أقوى وأسمى من الرد والمستقبل لكما».

 

وأضاف: «وحدي أتحمّلُ وزرَ الماضي ومسؤولياته، وقد قمتُ ببعضٍ من المراجعة… ومع البطريرك صفير عقدنا، وبرعايته، هنا، المصالحة. وإنني على استعداد لأي مساءلة أو نقد ذاتي مجدداً إذا لزمَ الأمر. ومن كانَ منكم بلا خطيئة، فليرجُمها بحجر… وكُل بني آدم خطّاء، وخيرُ الخطّائين التوّابون».

 

عرس المختارة كان يمكن أن لا يكون. كان من الممكن أن يبقى ذلك الزواج داخل البيت زواجاً مدنياً وعائلة جديدة. ولكن إخراجه بهذه الطريقة إلى الفضاء الخارجي يجعله محطة فارقة في تاريخ قصر المختارة. صحيح أن الزواج كان مدنياً ولكن في الواقع ليست استحقاقات الحياة الجديدة للعائلة الجديدة مدنية. سيكون على وليد جنبلاط ربما أن يزور ابنته وصهره في أدما مثلاً أو في غيرها حيث سيقيمان. وستكون لهذه المسألة حسابات جديدة ربما في العمل السياسي حتى يكون هذا العرس فعلاً صفحة جديدة للخروج من الماضي الذي تحدث عنه وليد جنبلاط إلى مستقبل سيكون له فيه أحفاد موارنة.