IMLebanon

لعنة الميثاقية الجنرال لا يستسلم أبداً

ما الذي ينتظره اللبنانيون بعد مراسم العبث بنظام الميثاقية؟ احتفالات الحوار بين قادة الطوائف في لبنان، أفضت إلى التهديد بالقطيعة «الوجودية». «التيار الوطني الحر» يفصّل ميثاقية على قياسه. الآخرون مرتاحون إلى قياساتهم السياسية. حصصهم محفوظة وسهلة التحقيق وبلا ممانعة من أحد. ما ينوونه يحصلون عليه. «التيار» يشعر بمشقة تحصيل ما يراه من حصته وحده. يريد رئاسة، مهما طال الزمن وتمادى الفراغ. بها تتحقق «الميثاقية» لا بسواها.

التاريخ اللبناني حافل باستعادة الأخطاء والإمعان فيها. كان الكيان، منذ ولادته، مرشحاً ليصير وطناً بنصوص مدنية ومحاصصة طائفية غير مبرمة. معتدلة ومفهومة. رست الميثاقية، عشية الاستقلال، على «لاءين»، واحدة ضد الوحدة، وثانية ضد التبعية. القيادات السياسية المتعاقبة، ارتكبت «خيانات» ضد اللاءين. خيانات فرضتها إغراءات الانتماءات الطائفية ومشاريع المحاور الدولية والإقليمية المضادة… ثم كان «لبنان الطائف» مرشحاً مرة أخرى، للانتقال من الحالة الميليشياوية المذهبية، إلى دولة مدنية تامة، بعد نزع سلاح العسكر الميليشياوي، وهذا حصل، وبعد نزع السلاح الطائفي، وهذا لم يحصل. لم يعبر لبنان بعد حروبه إلى الدولة المدنية كما نصت مواد الدستور. اعتصم الطائفيون بالطائفية وبالولاءات الإقليمية، فكان لبنان الحالي، القاصر جداً والمقصر أبداً.

كل الرهانات المدنية خسرت. سيطر الاستبداد الطائفي على لبنان. توزعت السلطة على «موظفين» برتبة رئيس جمهورية أو بمنصب رئيس حكومة أو بموقع رئيس مجلس نواب أو… أسياد بلا سيادة. السلطة، شُبِّه لها أنها في لبنان. الأمرة كانت في سوريا. لبنان، بطبيعته الطائفية المحمية بحراسة قوى مستقوية عددياً أو إقليمياً أو دولياً، بلد منحرف عن مسار الدولة وطالق من الديموقراطية ومتمادٍ في العجز وداشر في مشاعات الفساد… لبنان هذا، في قطيعة مع الدولة والوطن، في عداء مع الدستور والقوانين، في إهمال متعمّد لأنواع الرقابة والمعادلة والمحاسبة. لا حلول لحالة لبنانية خارج الدستور. الديكتاتورية الميثاقية احتكارية وحصرية. تقوم على ديموقراطية خاصة بالتمثيل الطائفي لا غير. المشروع الأرثوذكسي نموذجاً.

لقد تدنّت «الميثاقية» إلى مستوى احتكاري فظ. لا وجود البتة، في ميثاقية «التيار» لشرائح مسيحية غير طائفية، مدنية أو علمانية. لا وجود كذلك لشرائح واسعة سنية وشيعية غير مذهبية. مثل هذه الشرائح ملح الأرض ولم تفسدها إغراءات المذهبية. أكثر من خمسين بالمئة من الشعب اللبناني متحرّر من الطائفية. هؤلاء منبوذون ومبعَدون. «الميثاقية» ترى إليهم أنهم «خوارج» على لبنان. ولو كانوا لبنانيين في ذروة الانتماء والإنتاج والعطاء. «ميثاقية» التمييز العنصري، المسيحية ـ الإسلامية، هي العلة لا الخلاص. بمثل هذه الميثاقية يتحوّل الكيان من شراكة منتجة إلى شركة قابضة برأسمال مذهبي مزغول ومذلّ.

لم يحدث في تاريخ الكيان، أن استقامت العدالة الطائفية، أو طبقت «المحاصصة العادلة». في زمن المارونية السياسية، شكا السنة الإبعاد والشيعة الحرمان والأقليات، من كل الطوائف، الإهمال. بعد الطائف، حصل السنة على «حقوق» أُخذت من «الموارنة». ووزعت صلاحيات عدة على الأطراف الأخرى. شعرت الطائفة المسيحية بالغبن. باتت تشكو الحرمان. انتقلت العدوى إليها. وبسبب تغييب القيادات المسيحية عن الساحة، انقضَّ الآخرون على «الإرث الماروني» واستتبعوا مسيحيين مطواعين، لديهم ضعف تمثيلي في طوائفهم، فتوزع التمثيل المسيحي على الآخرين. وبدا هؤلاء لاجئين سياسيين عند السنة والشيعة والدروز… ما يطالب به «التيار» هو استرداد التمثيل وحصرية الانتماء إليه. فلا يبقى التمثيل معاراً لطوائف أخرى. يريد «التيار» أيضاً، تأصيل النيابة من خلال مرضعتها الطائفية، كي يستقيم الشعار: «أنا الميثاقية والميثاقية أنا».

مثل هذا التصور منطقي جداً، على المستوى الطائفي، وصعب التطبيق عملياً. إن «العدالة الطائفية» تقضي بأن تأخذ من السني ما استطابه ومن الشيعي ما اعتاد عليه، ومن الدرزي ما استأثر به، وهذا دونه معارك سياسية ودستورية. لعل ما كان يفترض من «التيار» أن يقلب الطاولة الطائفية برمّتها، وهو من المتحلّقين حولها، ليعيد نصاب الدستور بكامله، بحيث يكون العلاج، بالانتقال من الدولة الطائفية الفاشلة، بالأمس واليوم وغداً وفي كل حين، إلى الدولة المدنية الديموقراطية. على أن يكون مقام الميثاقية في مجلس الشيوخ فقط. لحماية التعدّد والديموقراطية والمصالح العليا.

لقد حدّد الطائف المكان والمكانة اللازمين للميثاقية بين مكوّنات وعائلات لبنان الروحية. أخرج الميثاقية من النزق السياسي والمتاجرة الطائفية والمحاصصة الذئبية. حرَّر السياسة من الطائفية والمذهبية. مؤسف أن لبنان أصيب بقيادات تمتاز بشراهة مذهبية مستفحلة. قيادات لا تشبع، فيما لبنان يتضوَّر تراجعاً وفراغاً وعجزاً وبؤساً.

إلى أن تنتهي معركة «الميثاقية» العونية بخسائر كبيرة، كما هو متوقع، وقد تصل إلى الخسائر الوجودية، يعيش اللبنانيون كابوس النفايات، ينسون الكهرباء التي ما عاد أحد يتحدث عنها، يندهشون من حجم التلوث في كل مكان، يتذمّرون من تراجع الخدمات والاختناق المروري… إلى أن تنتهي المعارك الخاسرة، على اللبنانيين أن يتوقعوا الأسوأ… لبنان محكوم بأن يظل على قيد هذه الحياة، بكل فظاعاتها. فما أبعد «الميثاقية» عن هموم اللبنانيين، ومشقة العيش العادي فيه.

من عادة الجنرال ألا يستسلم. إذاً، من حق اللبنانيين أن يخافوا على ما تبقى من لبنان، ومَن تبقى منهم.