IMLebanon

دايفد هيل ومحطات الخيبة والأمل (2 من 2) هـل تستعيد واشنطن قوة الردع؟

 

على رغم تقاعده من الإدارة الأميركية لم يتخلَّ السفير السابق في لبنان، ونائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط ووكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، دايفد هيل، عن اهتماماته بقضايا المنطقة وبلبنان في شكل أساسي. لذلك أطلّ على قضايا لبنان وعلى سياسة بلاده واستراتيجيتها في المنطقة من خلال كتاباته المستمرة ونشاطاته، ومن خلال كتابه «الدبلوماسية الأميركية تجاه لبنان… ستّ محطّات وأمثولاتها (1943 – 2023)». كأنّه يتابع قراءة محطة سابعة هي في طور التبلور، وهي بمثابة الفصل الذي لم يكتبه وصولاً إلى دعوته لاستعادة قوة الردع الأميركية في المنطقة.

في 25 آذار الحالي، قبل صدور قرار مجلس الأمن الدولي 2728 الذي طالب بوقف إطلاق النار في غزة وإطلاق الرهائن فوراً، ولم تعارضه واشنطن، كتب هيل في (This is Beirut) مقالاً حول الصراع الدائر في غزة وفي جنوب لبنان بين إسرائيل من جهة وحركة «حماس» و»حزب الله» وما سمّاه أذرعة إيران في المنطقة. اعتبر هيل أنّ خطر التصعيد بين «حزب الله» وإسرائيل قائم… وأنّ إدارة بايدن عملت منذ البداية على تخفيض احتمال تطور الأمر إلى حرب شاملة، وأن إيران لا تريد أن تتخلّى عن قوة «حزب الله» بالكامل «لأن وجوده يوفر رادعاً نظرياً ضد أي ضربة إسرائيلية لبرنامجها النووي».

 

يعيد هيل المشكلة لعدم الإيفاء بالالتزامات في نهاية حرب 2006، وتحديداً قرار مجلس الأمن 1701، لأنّ واشنطن أهملت تنفيذه وانتقلت للإهتمام بأزمات أخرى الأمر الذي مكّن «حزب الله» من التهرب من متطلبات القرار 1701، وتحديداً نزع سلاحه. وقد انتهى إلى استخلاص دروس عدة منها أن «شراء إذعان «حزب الله» مقابل تخفيف الضغوط عليه وتقديم التنازلات السياسية له مثلاً في ما يتعلّق بالرئاسة اللبنانية، لن يسهم بأي شكل في تحقيق الاستقرار». أضاف: «يجب الإعتراف بأنّ «العدو الاستراتيجي الأساسي موجود في طهران، وليس في بيروت. أما إن اقتصر ردّ الولايات المتحدة على التهديد الإيراني على رد الفعل والتركيز على وكلاء إيران، فلن ينعم أولئك المستهدَفون من قبل إيران بالسلام أبداً… عندما يشعر القادة الإيرانيون بالألم، وليس وكلاؤهم فقط، سنبدأ بخلق سياق يفرض تكاليف حقيقة وإعادة تقييم لسلوك إيران و»حزب الله» المتمثل في الإفلات من العقاب. ويشكل فرض العقوبات على إيران والضغط العسكري على أصولها وأفرادها المتمركزين خارج إيران، نقطة انطلاق جيدة لقلب الطاولة عليها. النجاح يتطلب الوقت والمثابرة».

 

المارينز بهدف التسويات

 

هذه النصائح المستخلصة من تجربة عاشها مع أزمات المنطقة، منذ حطّ للمرة الأولى في لبنان عام 1988 مع ريتشارد مورفي بحثاً عن رئيس للجمهورية، تعكس تباعداً بينه وبين حقيقة ما تفعله واشنطن على الأرض. وهي خلاصات تتطابق مع ما ذهب إليه في الفصل الأخير من كتابه حيث يبدو أنه ليس محايداً في الصراع الدائر في المنطقة وخصوصاً بالنسبة إلى موقف بلاده من إيران و»حزب الله»، وحيث أنّه يؤيّد التشدّد في التعامل معهما وأقرب إلى استراتيجية الرئيس السابق دونالد ترامب في عدم الإكتفاء بإظهار القوة بل في عدم التردّد في استخدامها.

 

يبدأ هيل في استعراض التدخل الأميركي في لبنان منذ بدايته مع القرن الثامن عشر وصولاً إلى الإرساليات التبشيرية وإلى مرحلة الإستقلال عام 1943 عندما كشف أن واشنطن دعمت بريطانيا ضد فرنسا لإجبارها على إطلاق سراح الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح والمعتقلين معهما من قلعة راشيا، وهدّدت بإطلاقهم بالقوة. وأن باريس خضعت لهذا التهديد وأطلقتهم. ولكن بعد ذلك ابتعد الإهتمام الأميركي بلبنان حتى عاد في أحداث 1958.

 

كانت المرة الأولى التي ترسل فيها واشنطن قوات المارينز إلى بلد عربي. ولكن هيل يعتبر أنّ إرسال هذه «القوات» لم يكن لدعم الرئيس كميل شمعون بقدر ما كان لتأمين انتقال السلطة إلى قائد الجيش فؤاد شهاب بعد تأمين انتخابه. وكان كل ذلك بالتفاهم والتنسيق مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وأنّه لو انتظرت الإدارة الأميركية بعض الوقت لما كانت أنزلت المارينز في بيروت لأنّه ظهر بعد ذلك أن قائد الإنقلاب الذي حصل في العراق، عبد الكريم قاسم، لم يكن منسجماً مع عبد الناصر.

 

لم يكن القرار الأميركي في ذلك الوقت منحصراً بالسفير في لبنان روبرت مكلينتوك، بل يرتكز على مستويين آخرين: المبعوث الرئاسي الخاص المرتبط برئيس الجمهورية كميل شمعون، وخلية المخابرات المركزية المتمثلة بمايلز كوبلاند الذي كان يعمل تحت ستار تجاري وكتب كتابه: «لعبة الأمم» الذي يروي فيه تفاصيل عن عمله من بينها كيف أنه تم ترتيب الإتفاق مع عبد الناصر قبل نزول المارينز على إنهاء الحرب. ويقول هيل إن هذا الإتفاق كان على انتخاب شهاب وتشكيل حكومة برئاسة رشيد كرامي، وشدّد على أنّ هذا الإخراج كان لمصلحة عبد الناصر وليس لمصلحة شمعون، وأنّه ساهم في هزّ الإستقرار والتوازن الداخلي وأوصل إلى الإنفجار الكبير عام 1975.

 

كيسنجر وتلزيم الأسد

 

عام 1976 برز دور الموفد الأميركي دين براون الذي وضع موضع التنفيذ تعليمات وزير الخارجية هنري كيسنجر التي تمّ خلالها انتخاب الياس سركيس رئيساً للجمهورية وتأمين الغطاء الأميركي لدخول الجيش السوري إلى لبنان من دون معارضة إسرائيلية، بهدف منع ياسر عرفات والقوى المؤيدة له من السيطرة على لبنان. وإذ يعتبر هيل أنّ هذا الدور الأميركي سهّل السيطرة السورية على لبنان، تطرّق إلى دور السفير فيليب حبيب في مرحلة 1981 – 1983 بعد الإجتياح الإسرائيلي وإنزال عدد محدود من القوات الأميركية إلى لبنان في إطار القوات المتعددة الجنسيات، مذكّراً بأنّها تمركزت في المراكز نفسها التي تمركزت فيها عام 1958، حيث تعرّضت لأكبر عملية تفجير في 23 تشرين الأول 1983.

 

يتحدّث هيل عن التدخل الأميركي بانتقاد واضح لأنّه لم يكن حاسماً وحازماً. ولأنّه لم يكن متشدّداً في الردّ على الإعتداء الذي تعرّضت له المارينز وبدل ذلك اختارت واشنطن الإبتعاد عن المشكلة والإنسحاب. هذا الأمر أدى عمليا إلى تسهيل عملية نمو قدرات «حزب الله» الذي أصبح أكثر جرأة على تحدّي الولايات المتحدة الأميركية، ومشكلة أكبر من السلاح الفلسطيني الذي خرج مع قيادة منظمة التحرير من بيروت. وأدّى ايضاً إلى تسهيل سيطرة سوريا على لبنان مرة ثانية بدعم من الإتحاد السوفياتي.

 

بين تجربتَي 1990 و2005

 

المحطة الثالثة التي يتحدّث عنها هيل تتعلّق بمرحلة «اتفاق الطائف» وتكليف سوريا بالملف اللبناني انطلاقاً من عمل الرئيس بيل كلينتون على تأمين دخول حافظ الأسد عملية السلام مع إسرائيل على أمل أن يقوم لاحقاً بنزع سلاح «حزب الله» وقد حصل العكس. لم يدخل الأسد عملية السلام ولم يحصل إنسحاب الجيش السوري عام 1992 كما نصّ الطائف. وقوي نفوذ حزب الله الذي خاض حربين ضد إسرائيل عام 1993 وعام 1996.

 

المحطة الخارجة عن هذا التساهل الأميركي الذي قوّى أعداءها في المنطقة، كانت مع تبني القرار 1559 الذي طلب خروج الجيش السوري من لبنان ونزع سلاح «حزب الله». وإذ ينظر هيل بشيء من التقدير للدور الذي لعبه السفير جفري فيلتمان، يعتبر أنّ هذه المرحلة التي سمّاها «أجندة الحرية 2004 – 2008»، وتحقّق فيها انسحاب الجيش السوري من لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري انتهت عملياً في العام 2008 حيث عادت واشنطن للتخلّي عن التشدّد، الأمر الذي سهّل انقضاض «حزب الله» على معارضيه في لبنان ومعظمهم ممّن يعتبرون أنفسهم أصدقاء لواشنطن. خلال هذه المرحلة حصلت حرب تموز 2006 وصدر القرار 1701 الذي اعتبر هيل أنّ واشنطن تساهلت في تطبيقه الأمر الذي سمح لـ»حزب الله» بالإستمرار في التسلح وبناء القوة.

 

العودة إلى استراتيجية ترامب

 

المرة الوحيدة التي خافت فيها إيران من واشنطن كانت على عهد الرئيس دونالد ترامب. يعتبر هيل أنّ ترامب نجح في الحدّ من نفوذ الجمهورية الإسلامية ولكن بعد انتهاء ولايته وانتخاب جو بايدن عادت القبضة الأميركية إلى التلاشي.

 

نتيجة هذه القراءة التاريخية المفصلة اعتبر هيل أنّ «هذا الكتاب ليس دعوة لتدخّل أكبر في لبنان، بل لفهمه أكثر والتقليل من التأرجح في الدور الأميركي بين قمة التدخل المباشر ووديان التجاهل التام». ويعتبر «أن التدخلات الأميركية صبّت أحياناً عن وعي، وأحياناً عن قلة إدراك، في مصلحة سوريا ثم إيران». وأن «التجاهل والتخلّي المتواصل عن لبنان سينتجان المزيد ممّا سجّله التاريخ من فوضى ويرسخان القوى المناهضة للمصالح الأميركية. وتماماً كما لم تتوقّع الأجيال السابقة من القادة الأميركيين كيف أن عقداً من «سوريا أولاً» جاءت ترجمته «حزب الله إلى الأبد»، فإنّه من غير الواقعي أن يتوقّع الجيل الحالي ما لا يمكن توقّعه».

 

لذلك يطلب هيل «طريقة جديدة للتعاطي الأميركي مع أزمات المنطقة وأزمة لبنان» تقوم على «استعادة قوة الردع» وعلى «اعتماد سياسة الضغط ضد الأنظمة الشمولية المفترسة لأنّ غياب هذه الإستراتيجة للتعامل مع المعضلة الأساسية التي يشكلها «حزب الله» حمل المقاربة الأميركية في لبنان على اعتماد وسائل دبلوماسية محدودة تركّز على أهداف يسهل تحقيقها ولكن هامشية، وتنغمس في خطاب تصعيدي منفصل عن الواقع والعمل الجدّي، فملأ حزب الله ومن خلفه النفوذ الإيراني الفراغ».

 

في قراءة هيل للمحطات الست من الدور الأميركي في لبنان والمنطقة يمكن فهم أسباب خيبته من هذا الدور وهو لا يتوانى، قبل تقاعده وبعده، عن الدعوة إلى تغيير السياسة الأميركية واعتماد مبدأ القوة والوضوح في التدخل، لأنه بنتيجة هذه القراءة يبدو أن المستفيدين من التردّد الأميركي كانوا من تصنّفهم واشنطن من الأعداء والخصوم. وذلك حتى لا يسود اعتقاد دائم بأن من الأفضل للاعبين المحليين والدوليين أن يكونوا من خصوم أميركا لا من أصدقائها أو حلفائها، لأنّها هي التي تقيِّم في النتيجة من يربح ومن يخسر.