IMLebanon

على بعد أيام من العيد الـ 75 للإستقلال … عشرة أيام لحكومة بشامون حفظت الاستمرارية الدستورية

 

 

عند تمام الساعة السادسة من مساء يوم 12 تشرين الثاني فاجأت محطة راديو الشرق في بيروت التي يسيطر عليها الفرنسيون، بأن التجول قد منع بدءاً من الساعة السادسة والنصف مساء، وان من يشاهد في الطرقات ابتداءً من هذا الوقت سيطلق عليه الرصاص فوراً. ورغم ذلك اكتمل عقد النواب في دارة آل سلام في المصيطبة عند الساعة الحادية عشرة، فعقدوا جلسة برئاسة الرئيس صبري حمادة، وكانت أول جلسة يعقدها النواب إبان الثورة خارج مبنى المجلس، فاستعرضوا فيها حوادث الأيام الماضية، وكان بعض النواب ممن لم يصلهم نبأ الاجتماع، قد أقبلوا من مناطقهم البعيدة، فاطلعوا على محضر الجلسة ووقعوه، أمّا النائب يوسف سالم فلم يشأ ان يوقع محضر الجلسة، الا إذا حذفت منه العبارة القائلة ان اميل إده قد اقترف جرم الخيانة العظمى.

وكان النواب بحاجة إلى أكبر عدد ممكن من التواقيع، فنزلوا عند رغبة زميلهم، على كره منهم، وحذفوا عبارة الخيانة، فوقّع يوسف سالم عندئذ المحضر، بينما الأكثرية المطلوبة كانت 28 نائباً، وكان بين الموقعين النواب: كمال جنبلاط، وديع الأشقر وجبرائيل المرّ وغيرهم ممن كانوا محسوبين على اميل إده في الانتخابات النيابية. ثم روى أبو شهلا محاول لدائرة الامن العام لاستدراجه إلى مقابلة مديرها تمهيدا لاعتقاله.

وأضاف أبو شهلا إلى ذلك قوله: إنه كان متردداً بين قبول الاعتقال للانضمام إلى رئيس الدولة ورئيس حكومته وزملائه الوزراء، ومقاسمتهم السجن والتشريد، وبين البقاء حراً طليقاً، وها هو يستشير المجلس في هذا الأمر وهو مستعد للإذعان لقراره.

وعند ذلك ارتفعت جميع الأصوات، طالبة من أبو شهلا ان يظل حراً، ويتابع الجهاد مع زميله وزير الدفاع مجيد أرسلان، بصفة كونهما يؤلفان حكومة شرعية، تعمل بالاتفاق، وبالتنسيق التام مع المجلس النيابي بشخص رئيسه الرئيس صبري حمادة.

وهنا طرحت ضرورة ان تبقى الحكومة ورئيس المجلس النيابي  في منأى عن السلطات الفرنسية، فطرح فريق من النواب ضرورة ان تنتقل الحكومة إلى خارج البلاد وبعضهم رأى ان تظل الحكومة ورئيس المجلس في لبنان، وبأي حال فقد كان إجماع النواب على ضرورة بقاء الحكومة ورئيس مجلس النواب احراراً طلقاء، ليؤمنوا الاستمرارية الدستورية والشرعية في البلاد.

وفي أثناء إحدى الجلسات كما يقول ال رئيس صبري حمادة «جاء من ينبئنا بأن الفرنسيين قادمون لاعتقالنا، فصممنا على الإفلات من براثنهم بأي ثمن، ليبقى حراً نفر ممن يمثلون السلطة الشرعية في البلاد».

وعند تمام الساعة الثالثة، نهض الرئيس صبري حمادة وحبيب أبو شهلا ومجيد أرسلان ومعهم خليل تقي الدين ومحمّد سلام شقيق الرئيس صائب سلام وركبوا سيارتين اخترقتا بهما زقاقاً ضيقاً، نفذتا منه إلى مبنى السفارة البريطانية حيث قابلوا السفير الذي خاطبه رئيس المجلس قائلاً: «لي الشرف ان احمل إليكم المقررات التي اتخذها مجلس النواب اللبناني في الاجتماعين اللذين عقدهما، ووقعهما النواب لو أضفنا إليهم توقيع الوزراء المعتقلين والنائب عبد الحميد كرامي يكون عدد النواب الموقعين أكثر من 38 نائباً يؤلفون أكثرية دستورية تفوق ثلثي أعضاء المجلس وهذه الأكثرية صالحة لإقرار القوانين، بل هي صالحة لتعديل الدستور نفسه، وان حكومة اميل اده دمية وهمية لا تتمتع لا بالسلطة الدستورية ولا بالثقة الشعبية.

وتناول الحديث الوزير حبيب أبي شهلا فقال: لقد منح المجلس الحكومة التي لي شرف ترؤسها بالوكالة ثقته التامة، واعتبر ان الدستور لا يزال قائما وان العمل الذي اقدم عليه الفرنسيون ممثلو لجنة الجزائر، باطل لأنه عمل طغيان وعدوان، يقابلهما الشعب اللبناني بالثورة والسخط. واعتبر ان الحكومة القائمة تضطلع بأعمال رئيس الجمهورية المعتقل، وذلك عملاً بأحكام الدستور. وقد تشرفنا أمس بتقديم مذكرة إليكم ولم نكن قد حصلنا على تأييد، وها نحن أولاً قد حصلنا على هذه الثقة، ونحن نعتبر ان حكومة اميل إده حكومة وهمية، وان كل عمل تأتيه أو مرسوم أو قرار تتخذه لغوٌ لا يعتد به، ونحن نرجو أن تأخذوا علماً بذلك وان تبلغوه إلى حكومة صاحب الجلالة البريطانية. ثم اطلع السفير على محاولة اعتقال أبي شهلا في الصباح وعلى مطاردة الفرنسيين للحكومة. فتسلم السفير نص المحضر وانصرف زائروه.

بعد ذلك، طرحت فكرة اللجوء إلى إحدى السفارات، فاختاروا السفارة العراقية ويقول الرئيس صبري حمادة في هذا الصدد: «لم أرض اللجوء لغير السفارات العربية، فذهبت إلى السفارة العراقية حيث تلقيت صدمة هي أقسى ما ذقته في حياتي على ما في حياتي من صدمات وخيبات أمل وفواجع في من احب وأعوَّل عليه». قال لي تحسين قدري السفير العراقي يوم ذلك: لا أرى نفسي ملزماً على توريط بلادي في إشكال دبلوماسي مع فرنسا، فقد لا يتورع الفرنسيون عن اعتقالكم هنا في السفارة.

يتابع الرئيس حمادة: «صدمني هذا القول يصدر عن عربي كنت اتوقع منه حسن الضيافة، لكنني لم ألح واكتفيت بأن طلبت ان يوصلني بسيارته إلى الحازمية خارج العاصمة اللبنانية ذلك لعلمي ان القيادة الفرنسية قد أصدرت امراً بإطلاق النار على سيارتي ومن فيها، ولما اجابني تحسين قدري بالرفض للمرة الثانية خرجت من السفارة لا ألوي على شيء وصعدت إلى سيارتي. كنت انوي الذهاب إلى الهرمل وبعلبك والقيام بثورة مسلحة هناك، ولكن ما كدت أصل إلى الشياح حتى فرغ خزّان السيّارة من الوقود وكانت جميع المحطات مقفلة. لست ادري كيف بلغ الخبر سكان المنطقة فهرعوا رجالاً ونساءً يحملون من منازلهم ما لديهم من البنزين. هذه تأتي بزجاجة صغيرة تحتفظ بها لتنظيف الثياب تفرغها في الخزان، وذاك يحمل صفيحة قديمة ويتبرع بما تبقى فيها. وامتلأ الخزان بسرعة أذهلتني.

بدا لي الحادث على بساطته بليغ المغزى وطمأنني إلى ان اللبنانيين جميعهم طلاب استقلال ناجز كامل، وانهم لن يقابلوا الا بالرفض أية حماية أو وصاية أو انتداب. كنت قد صممت على الذهاب إلى بعلبك ثم الهرمل عبر طرق غير مألوفة لأتفادى الاصطدام بالفرنسيين. لكنني على طريق عاليه التقيت حبيب أبي شهلا والامير مجيد أرسلان اللذين حملاني على العدول عن الذهاب إلى الهرمل وأقنعاني بمرافقتهما إلى بشامون لقربها من العاصمة ولموقعها الحصين. قضينا ليلتنا الأولى في الشويفات ثم تابعنا المسير إلى بشامون حيث شكلنا حكومة مارست صلاحياتها كاملة. وقد لحق بنا إلى هناك فيما بعد موظفو مجلس النواب وعلى رأسهم الشيخ خليل تقي الدين».

اتخذت الحكومة ومعها رئيس النواب من بيت حسين الحلبي في بشامون مقراً لها وتألفت حكومة بشامون من الوزيرين اللذين ظلا طليقين أي حبيب أبي شهلا رئيساً لها وقائماً بأعمال رئيس الجمهورية، ومجيد أرسلان وزير الدفاع الوطني ومعهما رئيس مجلس النواب صبري حمادة.

كان واضحاً منذ اللحظة الأولى لهذه التطورات، انه ينبغي الاستعداد الكامل لكل التطورات بما فيها احتمالات المواجهة المسلحة مع سلطات الإنتداب الفرنسي.

باشرت الحكومة في بشامون مهماتها ووزعت الحقائب على عضويها، وكان حبيب أبي شهلا في حكومة رياض الصلح نائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للعدلية والتربية الوطنية والفنون الجميلة، فتولى بالإضافة إلى ذلك بصورة مؤقتة وزارات المالية والتموين والتجارة.

وكان مجيد أرسلان وزيراً للدفاع الوطني والزراعة والصحة والاسعاف العام، فتولى كذلك بالوكالة وزارات الداخلية والبرق والبريد والاشغال العامة.

من جهته، رئيس مجلس النواب صبري حمادة، كان يُشارك في جميع أعمال الحكومة، لكنه ظل واضحاً تماماً امامه انه رئيس السلطة التشريعية لهذا نجد انه كان يوقع مع عضوي الحكومة «جميع المذكرات والمراسلات والاحتجاجات والمناشير ليعطيها قوة السلطة التشريعية، لكنه لم يشأ ان يشترك في توقيع المراسيم على رغم اشتراكه في تقريرها، حتى لا يطعن فيها فيما بعد من الوجهة القانونية، فكانت المراسيم تصدر بتوقيع أبي شهلا وارسلان وحدهما.

ومن المقررات التي اتخذتها الحكومة كان تعيين مستشارين، الأوّل عسكري وهو الكولونيل فوزي طرابلسي والثاني سياسي وهو خليل تقي الدين.

الجدير بالذكر ان الكولونيل طرابلسي كانت الحكومة قد اتخذت بتاريخ 11 تشرين الثاني قراراً بتعيينه قائداً لقوى الأمن الداخلي، لكنه لم يبلغ بهذا التعيين إلَّا بعد ظهر يوم السبت في 13 منه، بعد ان حمله إليه رسول إلى بيروت، وابلغه رغبة الحكومة ورئيس مجلس النواب بالإلتحاق فوراً بالحكومة، ولم تمض ساعة حتى كان في بشامون، يدخل إلى المقر المؤقت للحكومة ويؤدي لرئيس المجلس والحكومة التحية العسكرية معلناً وضع نفسه بتصرفها.

ووافق رئيس مجلس النواب صبري حمادة على ان يقوم أمين سر المجلس خليل تقي الدين بأعمال أمانة سر الحكومة وفي الوقت نفسه يكون مديراً بالوكالة لغرفة رئاسة الجمهورية ومستشاراً سياسياً للحكومة بناء على طلب قدمه رئيس الحكومة إلى رئيس مجلس النواب يقضي بانتداب خليل تقي الدين لهذه المهمات.

«وكان المستشاران العسكري والسياسي يحضران اجتماعات الحكومة كلها، ولكنهما لم يكونا يبديان رأيهما، أو يشتركان في المباحثات والمقررات إلا إذا سئلا، «وكان على الحكومة وهي في بشامون، ان تُعنى بمسائل رئيسية ثلاث، إذا عالجتها على الوجه الأكمل، فقد ضمنت تحقيق اماني البلاد، واولها المحافظة على سلامتها، لتبقى حرة طليقة، تعمل على تنفيذ خطتها، وبلوغ هدفها. وثانيهما الحرص على وحدة الأمة، واتفاق كلمتها، لتظل واقفة وقفة الجبابرة في وجه المعتدين. وثالثهما اسماع العالم كلّه كلمة لبنان عن طريق حكومته الشرعية ومجلس نوابه، كإبلاغ الهيئات السياسية العالمية والاقطار العالمية والاقطار العربية، وجهة نظر الشعب اللبناني، في أزمة كان لبنان فيها من أولها إلى آخرها، المعتدى عليه، وكان الفرنسيون هم المعتدين».

لقد «كان على الحكومة قبل كل شيء، ان تظل متصلة بالعاصمة، اتصالاً مستمراً غير منقطع، في أي ساعة من ساعات الليل والنهار، مطلعة على ما يجري فيها، وان تقود الشعب، وتوجهه وتحافظ على إضراب المدن اللبنانية، وتشلّ كل حركة فيها، ليفهم العالم ان لبنان بلد إذا عُطل دستوره، تعطلت كل حياة فيه. ولم تكن الحكومة في حاجة إلى كبير عناء للوصول إلى هذه الغاية، فقد كان الشعب شاعراً بعظم التبعة الملقاة عليه، وكان يسبق رغبات الحكومة في كثير من الأحيان.

كانت بشامون على صلة دائمة بالأمة، بواسطة النواب، وجماهير الزائرين الذين جعلوا بشامون كعبة لهم، يحجون إليها بالمئات كل يوم. وكان الزوار، خير من يعتمد عليه في إذاعة مقررات الحكومة، وابلاغ اوامرها إلى مختلف الجهات، والمحافظ على الأسرار التي يؤتمون عليها، وكم مرّة جاء موفد من بيروت  تحت جنح الظلام، ليبلغ الحكومة رسالة، أو يطلعها على إذاعة تُعنى بلبنان، أو ليسألها سؤالاً ينتظر أصحابه الجواب عنه في بيروت، أو طرابلس أو صيدا، فما ان يصل إلى بشامون ويؤدي الرسالة، ويتلقى الجواب، حتى يقفل راجعاً من حيث أتى».

لم يغب عن بال حكومة بشامون، ان الحكومة التي عينتها سلطات الانتداب ستحاول ان تمارس مهماتها وتنفق من أموال الخزينة العامة ولهذا «ارسلت الحكومة أمرين، للحؤول دون مدّ اميل إده يده إلى أموال الأمة، الاول: إلى المدير العام لمصرف سورية ولبنان. وهذا المصرف كان مصرف الدولة الرئيسي، وهو في الوقت ذاته بنك الإصدار في سورية ولبنان، والثاني: إلى أمين صندوق الخزينة اللبنانية.

فحمل أحد الشبان الأمرين لابلاغهما. فلما تلقى المصرف كتاب الحكومة، دعا أعضاء مجلس ادارته في الحال، للنظر في ما يجب عمله، فاجتمع مجلس الإدارة وظل يتناقش أكثر من ثلاث ساعات. واخيرا اجمع رأيه على وجوب الاذعان لأمر الحكومة الشرعية، وإصدار تعليماته بهذا المعنى، إلى جميع موظفي المصرف للتقيد به.

واما أمين صندوق الخزينة اللبنانية، وهو موظف في وزارة المالية، فقد تلقى الأمر وحمله من فوره إلى مدير المالية فاحتفظ هذا به ولم يؤشر عليه بشيء».

«وكان من نتيجة هذا التدبير، ان اميل إده لم يستطع ان ينفق من أموال الأمة، طيلة الأيام الأحد عشر التي تولى فيها رئاسة الحكومة غير الشرعية، سوى مائة واثنتي عشرة ليرة لبنانية، دفعتها وزارة المالية سهواً، إلى أحد أصحاب الحوانيت، تعويضا له عمّا لحقه بمحله المتظاهرون من ضرر حين رشقوه بالحجارة، واكرهوه على إقفاله.

وهكذا حافظت الحكومة على أموال الأمة، كما حافظت على دستوريها».

وأبلغت الحكومة جميع الموظفين، وجوب الامتناع عن الحضور إلى مكاتبهم، وعدم التعاون مع حكومة غير الحكومة الشرعية. فنفذ الموظفون في كثرتهم الساحقة هذا الأمر. وتعطلت أعمال الدواوين، وأقفلت وزارات كثيرة أبوابها، طيلة أيام الأزمة، ولم يستطع اميل إده، ان يجد في السراي أحداً يعاونه، أو يتلقى أوامره، الا بضعة موظفين صغار.

وأصدرت الحكومة مرسوما بإبطال طوابع البريد اللبنانية التي تحمل صورة أميل إده، واعتبارها غير صالحة وهي طوابع كانت إدارة البرق والبريد قد اصدرتها يوم كان اميل إده رئيساً للدولة اللبنانية في سنة 1937.

وعينت الحكومة، بناء على اقتراح الكولونيل فوزي طرابلسي، الليوتنان كولونيل فليمون خوري، قائداً لموقع بيروت. وأبلغه الكولونيل هذا التعيين، وارسل اليه تعليمات تقضي بأن يتخذ الدرك موقفا ايجابيا من حركة الثورة والاضراب. وقد كان  لهذه الارشادات، اثر كبير في هذا الموقف.

في «يوم الاثنين الواقع فيه 15 تشرين الثاني 1943 وفي تمام الساعة الثالثة والنصف وصل إلى بشامون من سوق الغرب فتى يعدو داخلاً إلى بيت حسين الحلبي الذي اتخذته الحكومة مقرا لها قائلا إن حملة فرنسية كبيرة تزحف إلى بشامون تتقدمها سيّارات مصفحة فرأى السيّد حبيب أبي شهلا ان تنسحب الحكومة إلى سرحمول فخرج معه خمسة شبان مسلحين وفي نيتهم الاتجاه إلى هناك.

«مع اشتداد الضغط في أواخر أيام المقاومة في بشامون ارسل الوزيران حبيب أبي شهلا والامير مجيد أرسلان، بدون علم من الرئيس صبري حمادة، خليل بعقليني والياس صدى وكانا من الحرس الوطني إلى الوزير البريطاني المفوض الجنرال سبيرس ليطلبا منه باسمهما سيّارة تنتظرهما عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل في صحراء الشويفات حيث نصب الأمير فؤاد أرسلان، وكان في نيتهما الذهاب إلى مصر وتشكيل حكومة ثورة في القاهرة. وافق سبيرس على طلبهما وارسل السيارة»، ولكن عندما بلغ امرهما الرئيس صبري حمادة على لسان الشيخ خليل تقي الدين أشهر بندقيته مهددا كل من يخطر له ان يبرح بشامون في تلك الليلة.

في ذات الوقت طلب الرئيس حمادة من المتطوعين من أبناء  منطقته ان يتبادلوا الحراسة على المقر المؤقت للحكومة، وعلى ان يطلقوا النار على كل من يخرج بغية الذهاب من بشامون حتى لو كان هو شخصيا.

وهكذا عادت الحكومة وتماسكت مع بعضها البعض حتى تاريخ 21 تشرين الثاني عندما أفرج عن الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح والوزراء والنائب عبد الحميد كرامي.

الجدير بالذكر، ان الجنرال كاترو كان قد وصل إلى بيروت في تاريخ 16 تشرين الثاني موفدا من الجنرال شارل ديغول لحل الأزمة، وهو جاء إلى بيروت من الجزائر عن طريق القاهرة التي وصلها في 14 تشرين الثاني فجرا، حيث فوجئ بتظاهرات في القاهرة وهجوم صحافي عام يستنكر عمل فرنسا في لبنان.

حين وصول كاترو إلى مطار بيروت وجد في استقباله هللو محاطاً بأعوانه العسكريين والمدنيين الذين كان يبدو بوضوح الامتعاض على وجوههم من قدومه لأن اغلبهم كان يوافق على عمل هللو، لأنهم كلهم يحنون إلى الانتداب والسلطة.

في بيروت شعر كاترو بالنقمة على اميل إده الذي وجده عندما ذهب لزيارته وحيدا في سراي خال كالصحراء.

باشر كاترو اتصالاته وأجرى لقاءين الأوّل في 18 تشرين الثاني مع رئيس الجمهورية بشارة الخوري والثاني يوم 19 تشرين الثاني مع رئيس الحكومة رياض الصلح اللذين جيء بهما سراً من سجنهما في قلعة راشيا إلى بيروت، فأبدياالكثير من الصلابة والاصرار على الاستقلال التام الذي لا مجال للحياد عنه ابداً. ويقول الرئيس صبري حمادة: «كان الجنرال كاترو قد قدم إلى لبنان مكلفاً من قبل ديغول بمحاولة إيجاد حل للأزمة يصون مصالح بلاده.. ولو صمود الشيخ بشارة الخوري في وجهه لكان تاريخ الاستقلال غير التاريخ الذي نعرف. كان الفرنسيون يأتون به ليلاً من عتقله في قلعة راشيا إلى قصر الصنوبر، ليعرض عليه كاترو ويكرر عرضه مراراً بأن يتخلّى الرئيس اللبناني عن حكومته لقاء مبايعته رئاسة الجمهورية مدى الحياة. في كل مرّة كان الجنود الفرنسيون يقتادونه لمقابلة كاترو ويحاولون التأثير عليه بما يحشدونه حوله من حراسة مشددة، كان الشيخ بشارة يتوقع «تصفيته» بطريقة ما. إلا انه لم يلن، بل ظل على صموده يكرر قوله المأثور:

لقد ربطت مصيري بمصير الحكومة الشرعية في البلاد، وعودتي إلى منصبي مرتبطة بعودة الحكومة برئيسها وكامل أعضائها.

اما حكومة بشامون، فقد وصل إليها عند الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الأربعاء في 17 تشرين الثاني أحد الأصدقاء، وقال لها ان بيير بار أحد كبار الموظفين الفرنسيين في المندوبية العامة، اتصل به وكلفه ان يأتي الى بشامون ليطلب من الحكومة ان توافق على مفاوضة الجنرال كاترو للوصول معه إلى حل للمشكلة اللبنانية.

أضاف هذا الصديق مؤكداً ان الجنرال كاترو يرغب في الاتصال بكم حالاً، وقد فهمت انه يطلب مقابلتكم في بيروت وهو استأجر قصراً في حيّ سرسق، نزل فيه ليظل بعيداً عن أجواء المندوبية وتأثيراتها وبعيداً عن موظفيها، وهو ندب بار لهذه المهمة نظراً للصلة الطيبة التي تربطه مع رئيس الجمهورية.

تناقشت الحكومة في هذا الطلب وتوافق الوزير حبيب أبو شهلا مع الرئيس صبري حمادة، على ان المفاوضة عمل لا فائدة منه، ولا يقصد الجانب الفرنسي منه الا محاولة انتزاع حقوق أو جزء من حقوق اللبنانيين، وذلك ما لم يسلم به أحد، لا مجلس النواب ولا الحكومة الذين لا يقبلون ان يفرطوا في ذرة من اماني البلاد الوطنية.

وقال الرئيس حمادة: إننا لا نلعن الذين اختطفوا الرؤساء لأنهم بعملهم هذا بعثوا الشعب من سُباته، وسيرون ان البلاد ستنال الاستقلال، وستدفع ثمنه من دم ضحاياها وشهدائها، ولن يستطيع أحد ان ينتزع منا استقلالا اخذناه بالدم.

وقال حبيب أبو شهلا: «يجب ان نبلغ كاترو ان مطالبنا تنحصر في أمر واحد وهو عودة المعتقلين حالاً، وإعادة الحياة السياسية إلى ما كانت عليه قبل الاعتداء يوم 11 تشرين الثاني، وإذا ما شاء الفرنسيون ان يفاوضوا، فالمفاوضة لا تجري الا مع رئيس الجمهورية، عملاً بأحكام الدستور، اما ان نفاوض ورئيسنا معتقل، وحكومتنا في الأسر والجبال، ودستورنا معطّل، فذلك ما نرفضه رفضاً باتا».

يوم 21 تشرين الثاني 1943 أفرجت سلطات الانتداب الفرنسي عن رئيسي الجمهورية والحكومة: الشيخ بشارة خليل الخوري ورياض الصلح والوزراء والنائب عبد الحميد كرامي فاستقبلوا على طول الطريق من راشيا حتى بيروت استقبال الأبطال، وفي الوقت نفسه كانت العاصمة تعد استقبالاً كبيراً لأعضاء حكومة بشامون.