IMLebanon

حول اللجوء إلى الموت مما هو أسوأ منه!

 

« نلاعب نارًا نقول لن تحرقنا
نصارع بحرًا نقول لن يغرقنا
نخرق الأعراف أملًا في أوهام هنا
نداعب موتًا إن نغويه يصرعنا
هو الكون يسري ولا يدري بنا
إن كنا وجدنا فلا رأي لنا
نموت يوم ولدنا دون دفننا
إن كنا رضينا بما يرسم لنا»
(شاعر مغمور)

في لحظة الصمت والحزن يلجأ الإنسان إلى صوت الوجدان لينسج تفاسير فلسفية ليفهم ما يعجز عن تفسيره في كيفية يلجأ بعض البشر إلى احتمال عدمية الموت في سبيل إزاحة العدمية في الحياة! أعتذر مسبقًا من القراء القلائل من الضيق الذي ستتسبب به هذه الرسالة، وأتفهم بكل رحابة صدر إن لم يكملوا القراءة. ما يلي هو مقاطع من رسالة ماجيستير في الفلسفة.

 

«أزمة الإنسان الوجودية ابتدأت منذ اللحظة الأولى لوعيه وإدراكه لوجوده، والأهمّ، لاحتمال عدم وجوده. وعندما نقول عدم الوجود، فإنّ الأمر لا يتعلّق فقط بالوجود المادي، أي الحياة أو الموت، بل بالإحساس بعدميّة الوجود حتى في الحياة. الوجود العدمي هو ذاك الوجود الذي لا يحمل في طيّاته أي معنى للوجود. أزمة البشر الوجوديّة هي مضاعفة لإحساسهم وإدراكهم لعدائيّة كل ما حولهم تجاه وجودهم، وهذا يشمل إلى الطبيعة وعناصرها من بحر وزلازل وأوبئة، وصولًا إلى البشر الآخرين والصدف غير السارّة. من خلال إدراكه الواعي لمواطن ضعفه الجسدي وحدود معرفته، مثل عدم القدرة على فعل شيء ما، أو عدم معرفة الحقيقة عن الشيء، والخشية من كل ما يدور في فلك العدم، بدأ الإنسان بالعمل على الإعتماد على التقنيّات للارتقاء بقدراته وإطالة عمره، متحدّياً الطبيعة التي جعلت منه، وإن كان عن غير قصد، عالقًا في عالم أُسقط فيه في مواجهة دائمة مع معنى وجوده.

 

لو كان الموت هو أقصى العدميّة، لما كان سعي الإنسان ليتحدّى خطر الموت خلال محاولة تجاوز العدمية في الحياة. يعني الوصول إلى ملامسة العدميّة المطلقة في الموت، في سبيل تجاوز الحدود التي تسيج وجوده بالضيق من الحال. كل ذلك يأتي على طريق استكشاف وتحقيق الاحتمالات الممكنة باتّجاه التسامي فوق الواقع. هنا التاريخ حافل بالتجارب الفاشلة في تجاوز الحدود للبشر، سقط فيها أعداد لا تُحصى من «الشهداء» أمثال «إيكاروس» عند الإغريق أو «عباس بن فرناس» عند العرب، وذلك في سبيل فرصة للتسامي فوق الوجود الحاضر، من خلال تخليد الذكرى مثلًا. هو السعي غير الإرادي لإيجاد معنى لكل ما هو موجود، ومن ضمنه، وفي أساسه، الوجود الشخصي للإنسان.

 

فإنّ قدرات البشر الكامنة، وإن نظريًا، تجعل منهم في حال تجاوز نحو تسامٍ مستمرّ لحدود ما كان، من خلال الولوج إلى عالم الاحتمالات مهما كانت خطرة. لكن تحقيق هذه الاحتمالات يصطدم دائمًا بحدود ما، هي واقع الوجود في العالم. هذا الاصطدام هو جوهر «المرارة» المؤلمة التي تؤدّي إلى «الضّيق» كمزاج أو كحالة بشريّة. هذا الضّيق ليس فقط من الموت، بل هو نابع أساسًا من احتمال العدميّة المتمثّلة في عدم تحقيق ما هو احتمال، أو عدم القدرة على التجاوز للتسامي فوق الواقع في العالم الذي بنى السدود في وجه اكتمال الوجود، أو إعاقة تحقيق كل الاحتمالات. فالشعور بالعدميّة قد يكون نابعًا من فكرة الموت، ولكنّه، كما يؤكّد مارتن هيدغر، لا ينبع من تجربة الموت الشخصية «الموت يأتي كخسارة حقيقية، لكن هذه الخسارة تعني الأحياء، (لأنّ الأموات أموات ولا يمكن أن يختبروا الموت ويخبروا عن انطباعاتهم حول موتهم)، لكنّنا بالتأكيد لن نتمكّن من اختبار تجربة الميت بخسارته الوجود. يعني أنّ التجربة تبقى قاصرة، وبأقصى الحدود، تقتصر على كوننا إلى-جانبها»، «بين البشر بشكل خاصّ، يبقى احتمال الموت مجرّد احتمال، لأنّه عندما يتحقّق (الموت) فإنّ وجود الإنسان المادي يتلاشى. الموت هو إذًا احتمال استحالة الوجود بالكامل». فالموت هو تجربة خاصّة بالشخص المعني، تنقطع بعدها كل علاقاته بالعالم».

 

لكن الموت يبقى مجرّد احتمال للإنسان في مساره اليومي، ولو كان غير ذلك لتوقّف البشر عن السعي بالكامل، طالما أنّ الموت حتمي. الموت الحتمي (الوشيك) هو ما دفع الكثير من الِفرق الدينية إلى ترك كل شيء في الحياة اليوميّة على اعتبار أنّ الفناء الكلّي آتٍ، أو على الأبواب. لكن، بالنسبة للأكثريّة العظمى من الناس، فإنّ الضّيق نابع من محدوديّة القدرات على تحقيق كامل الاحتمالات في الحياة، وليس من حتميّة الموت. بالتالي هذه المحدوديّة وضعت الحدود أمام التجاوز للتسامي فوق العدم ومن ثم تحقيق الاحتمالات. يعني أنّه، وحسب هيدغر، «الموت هو النهاية الوحيدة للكائن-هنا، هو الطرف الآخر الذي يحوي كلّية الوجود. الطرف الآخر هو بداية الوجود عند الولادة. فقط، ما هو بين الطرفين، يوجد فيه كلّية ما يمكن السعي إليه. الإنسان كان حتى الآن (يُفهم) في طريقة وجوده متطلعًا للأمام، وكما كان تاركًا وراءه الماضي، ما يهمّ هو كيف يكون في تلك الفسحة ما بين الولادة والموت». هذا ما يؤكّد من جديد أن هَمّ الإنسان الأساسي هو ما يمكن فعله ليتجاوز واقع محدوديّته في تحقيق الاحتمالات لتجاوز العدم.

 

ما يحدّ الوجود، ويحدّ احتمالات ما سيكون، هو الشريط الممتد بين الولادة والموت، فمن المنطقي الاستنتاج أنّ تأجيل الموت إلى أقصى ما يمكن، يعطي فرصة أكبر لتسامي الإنسان من خلال تجاوز حدود وجوده المنكوب بواقع سقوطه في العالم. فهل العدم هو في التوجّه نحو الموت؟ وأنّ الضّيق هو مزاج البشر ناتج من عدم فهم العدميّة؟ أم أنّه وجود يسعى دائمًا لتجاوز ضيق الحال الذي قد يهون الموت لأجله. وأنّ الإحساس بالضّيق ناجم عن الشعور الدائم بالظلم والمرارة في العالم الذي يضع حدودًا مستحيلة التجاوز أمام الاحتمالات التي لا حدّ لها في فكر البشر؟».