لمدّة ثلاثة أشهر بخريف العام 1983، لاحت أمام لبنان الغارق بالحرب الأهليّة فرصة الإفلات من براثن حافظ الأسد. كان الجيش الإسرائيلي سحق قوّات الأسد بلبنان، قبل أن يفرض على ياسر عرفات خروجاً مذلّاً من بيروت. كان ينبغي على المحور اللبناني-الأميركي آنذاك مواكبة الضغط العسكري حتّى يخرج آخر جندي سوري من لبنان، وإعادة تشكيل السلطة بعدها على أساس مكافأة القوى اللبنانيّة التي رفضت الهيمنة السوريّة على لبنان – فكّر بكامل الأسعد، ومجيد أرسلان، وصائب سلام، وتقيّ الدين الصلح، بالإضافة طبعاً إلى الجبهة اللبنانيّة – وإبقاء القوى التي استسلمت للأسد خارج الحكم. كان عامل الوقت أساسيّاً، لأنّ ما كان ممكناً بالأسابيع التي تلت هزيمة الأسد العسكريّة ما عاد كذلك لاحقاً. تالياً، كان ينبغي الإسراع بالحسم، والأخذ بعين الاعتبار أنّ التغييرات الكبرى التي شهدها لبنان كانت لتكون مستحيلة لولا العامل الإسرائيلي، ووضع أساس واضح للحكم بالمرحلة الجديدة، وعدم إضاعة الوقت بممالأة القوى المحليّة المعادية للبنان.
بيد أن شيئاً من هذا لم يحدث. بدل التركيز على ما كان مهمّاً آنذاك قبل أيّ شيء آخر – عنيت طرد قوّات الأسد من لبنان بعد طرد قوّات عرفات – أهدر المحور اللبناني-الأميركي أشهراً ثمينة بمفاوضات عبثيّة، لا لأنّ نتيجتها كانت سيّئة، بل لأنّ الوقت الضائع أعطى الأسد وقتاً كافياً لإعادة تسليح نفسه وتغيير موازين القوى بعد أن كانت مختلّة تماماً ضدّه. وبدل أن تركّز السياسة الأميركيّة على لبنان، تورّطت واشنطن بمبادرة الرئيس الأميركي رونالد ريغن للسلام بالشرق الأوسط، ما أعاد ربط بلادنا بمعادلة الصراع العربي-الإسرائيلي، بعد أن كانت هزيمة عرفات بلبنان لوّحت للحظة بإمكان إخراجه منها. وبدل أن يقرّ الحكم اللبناني أنّ السلاح الإسرائيلي خلّصه من الورم الفلسطيني، وأنّ شيئاً غير هذا السلاح ما كان بإمكانه أن يفعل ذلك، عاد إلى السياسات الرماديّة بمسألة العلاقة مع إسرائيل، محاباة للعرب. أخيراً، بدل أن يشكّل الحكم فريقاً صقريّاً يحاكي مقتضيات المرحلة، استدعى إلى السلطة آخر من كان يجب أن يكون فيها؛ ليس تفصيلاً، بهذه المسألة بالذات، أن يسلّم الحكم آنذاك وزارة الخارجيّة لأكاديمي بخلفيّة قوميّة عربيّة، علماً أنّ هذه الخلفيّة بالتحديد هي آخر ما يحتاجه لبنان بأيّ مرحلة، وخصوصاً بالعام 1983.
نعلم الآن أنّ سياسة المحور اللبناني-الأميركي كانت كارثيّة على لبنان. ضاعت فرصة تحجيم الأسد بعد أن أعاد السوفيات تسليحه. أمّا حلفاء سوريا الذين حاول الحكم اللبناني مراضاة خواطرهم – وليد جنبلاط تحديداً – فظلّوا مع الأسد لأنّهم كانوا يخشونه أكثر ممّا كانوا يخشون الحكم. ثمّ أنّ الرماديّين بالسلطة، ثرثروا، وأفتوا بكلّ شيء، باستثناء المسألة الأساسيّة التي تهمّ، عنيت أنّ التغيير حدث بسبب السلاح الإسرائيلي، وأنّ الحكم اللبناني الذي لا يأخذ ذلك بعين الاعتبار يخطئ بحقّ بلاده. أمّا “القوّات اللبنانيّة”، فنظر لها الحكم كمنافس ينبغي تحجيمه لا كحليف يمكن الاستفادة منه لمصلحة لبنان.
فكّرت بكلّ ذلك مؤخّراً بينما تابعت أخبار تشكيل الحكومة. صحيح أنّ أموراً كثيرة تغيّرت بين الأمس واليوم، أهمّها أنّ الاتّحاد السوفياتي لم يعد موجوداً، وأنّ نظام الأسد انهار. ولكنّ هذا يعني أنّ نافذة الفرصة هذه المرّة ربّما تكون أكبر، ليس أكثر. يبقى أنّ الحكم اللبناني يمكن أن يضيع الفرصة مجدّداً لو كرّر أخطاء 1983، وأخطرها إدخال مخرّبين إلى السلطة، والتعاطي مع القوى اللبنانيّة الصلبة كمنافس لا كحليف، واستسهال المواقف الرماديّة بدل التعاطي بحسم مع أيّ سلاح غير شرعي، واجترار الولدنة بموقف لبنان من إسرائيل.