IMLebanon

هل سقطت منظومة القطب الواحد؟

عرفت البشرية منذ تكوُّنِ حضاراتها صراعات حدّدت استراتيجيتها وغيّرَت في واقعها. أحداث مرّت وأثّرت في رسم الخريطة الجيوسياسية. فمع الثورة البولشفية في روسيا عام 1917 خرَجت المنظومة الإشتراكية إلى العالم لتفتّشَ عن وجود لها في توازن القوى. وكرّست الحرب العالمية الثانية نظرية صراع القطبَين الإشتراكي من جهة، والليبرالي من جهة أخرى.

مع سقوط نظام الاتّحاد السوفياتي عام 1990 سارت البشرية في منظومة القطب الواحد المسيطر تحت لواء الفكر الليبرالي، حيث أطلق المفكّر الأميركي فرنسيس فوكوياما نظرية «نهاية التاريخ»، إذ حاولت الولايات المتحدة الأميركية فرضَ مبادئ نظريتها البراغماتية على الدول، في محاولة منها لبسطِ نفوذها وسيطرتها.

إرتكزَت الولايات المتحدة في قيادتها على قوّتين، هما:

– إقتصادية، تقودها شركاتها العملاقة، حيث راحت تفتّش عن أسواق لها لفرض سلعِها عليها ونهبِ مواردها، مستغلّةً بذلك اليد العاملة في الدول النامية مستعبدةً إيّاها لتحقيق الأرباح. كما وعمدت للتفلّت الضريبي فحرَمت الشعوب النامية حقَّها الضريبي، وأغرقَت البلاد في الفقر والجهل وزرعت النزاعات الداخلية، وعمَّمت الفوضى ونشرَت الفساد علّها تتمكّن من فرض هيمنتها دون رقيب. لذلك إنّ سيطرة شركاتها على مختلف قطاعات الإنتاج العالمية سَمحت لها بالتحكّم في سياسات الدول الاقتصادية تحت شعار «سياسة السوق».

– عسكرية، من خلال نشرِ قواعدها العسكرية في مختلف أصقاع الأرض، تتدخّل كلّما شعرَت بخطر يهدّد مصالحها. فلقد لعبَت القاعدة الأميركية «إنجرليك» في تركيا دوراً في إفشال الإنقلاب العسكرية، بعدما شعرَت الولايات المتحدة بأنّ الإنقلابيين سيَسيرون عكس طموحاتها في المنطقة. كما وأنّ قاعدة «أوسان» الجوية في كوريا الجنوبية تسبّب أرَقاً لكلّ من كوريا الشمالية والصين، فتضيّق عليهما حرية التحرّك والتوسّع.

إذاً، عَمدت الإدارة الأميركية لقيادة العالم بطريقة أوتوقراطية، من خلال تدخّلاتها في أكثر من منطقة حفاظًا على مصالحها. لذلك أغرَقت البشرية في الحروب والقتل وزرَعت عبر وسائلها الإعلامية الفكر البرغماتي – المادي فضربَت القيَم الإنسانية، ونشرَت المذهب المادي بين البشر.

بدأ الدور الأميركي يشهد انحسارًا في أكثر من منطقة، خصوصًا بعد تولّي الرئيس أوباما مهامّ الرئاسة في البيت الأبيض. فمع انسحاب القواعد الأميركية من العراق نهاية 2011، ومن أفغانستان عام 2012، وتراجعها عن ضرب النظام السوري عام 2013، إضافةً إلى غيرها من قرارات سَمحت لبعض الدول العالمية والإقليمية وحتى المحلية بلعِب دور على الساحة العالمية.

صحيح أنّ السياسة الأميركية بقيادة أوباما اتّبعَت تكتيكًا جديدًا في قيادتها، لكن كان لبعض الدول موقف مغاير، مُستندًا إلى مبدأ فرضِ القوّة للوقوف في وجه أطماع الإدارة الأميركية، منها:

– الصين، التي سارت بثبات في مشاريعها لاستغلال ثروات جُزر بحرها الجنوبي، ولدفعِ اقتصادها إلى الأمام، رغم كلّ الضعوطات السياسية والعسكرية الأميركية عليها. وفي هذا السياق، أكّد نائب هيئة الأركان المشتركة الصينية سون جيان قو أنّ قواته على استعداد لضرب كلّ من يعرّض أمنها ومصالحها للخطر.

– كوريا الشمالية، التي أكّدت في أكثر من مرّة أنّ تجاربها الصاروخية التي أجرَتها يوم 19/7/2016 والتجارب السابقة، كانت محاكاة لضربات نووية ضد أهداف عسكرية أميركية في كوريا الجنوبية، ولمنع القيادة الأميركية الحدّ من طموحات الشعب الكوري الشمالي في تقرير مصيره.

– روسيا، التي يعمل رئيسُها فلاديمير بوتين على قلبِ موازين القوّة على الساحة العالمية من خلال التدخّل العسكري المباشر في جورجيا وأوكرانيا وسوريا. وقد أعربَ في أكثر من مقابلة عن نيّة روسيا فعلَ أيّ شيء للمحافظة على وجودها ومصالحها.

– مجموعة البراكس، التي تشكّلت من مجموعة دول شعرَت برغبة في الوقوف أمام أطماع الشركات الغربية، والدفع قُدمًا لدعم الاقتصاد القومي والمحافظة على كيان الدولة – المركزية من خطر الضياع في السوق العالمي.

إذاً، في ظلّ هذه التحوّلات يقف العالم أمام انزلاق خطر قد يفتح الطريق أمام حرب كونيّة ثالثة، خصوصاً وأنّ القوة المتصارعة على الساحة الدولية تحاول فرضَ واقعٍ يتناسب مع تطلّعاتها ورؤيتها للعالم. هذا ما سيزيد من تسارع الأحداث في أكثر من منطقة، في ظلّ التفلّت الواضح للدوَل من شرعة حقوق الإنسان، وضعفِ دور هيئة الأمم المتحدة الراعية لحلّ النزاعات في العالم. هذا ما يضع البشرية أمام الإشكالية التالية: هل سَقطت منظومة القطب الواحد؟ أم أنّها استراتيجية جديدة تتّبعها الإدارة الأميركية ؟