IMLebanon

المركزي الأوروبي يستخدم كل وسائله

قام وزير المال الألماني بتوجيه انتقادات لاذعة للمصرف المركزي الأوروبي الذي يستخدم كل وسائل التسييل الكمّي في ظل سياسة أقل ما يُقال عنها إنها عدائية جداً (Aggressive). هذه الانتقادات تطرح مسألة استقلالية المركزي الأوروبي والسياسة المُتّبعة في ظل التنوع الاقتصادي لمنطقة اليورو.

إثر الإجراءات الجديدة التي قام بها البنك المركزي الأوروبي لدعم الاقتصاد في منطقة اليورو ولتفادي خطر الإنكماش، قام وزير المال الألماني بتوجيه انتقادات لاذعة للبنك المركزي الأوروبي مُحمّلاً إيّاه مسؤولية تقدّم الأحزاب المُتطرفة في استطلاعات الرأي. وبحسب الوزير الألماني، تمادى المصرف المركزي الأوروبي كثيراً في استقلاليته.

هذا الأمر دفع ماريو دراغي إلى الرد بعبارة قانونية مُستوحاة من قانون إنشاء المصرف المركزي الأوروبي: «نحن نخضع للقوانين وليس للسياسيين لأننا مستقلون». هذه العبارة تطرح مسألة إستقلالية المصرف المنصوص عليها في المادة 105 من المعاهدة الأوروبية والتي تهدف إلى المحافظة على ثبات الأسعار ودعم السياسة الاقتصادية العامة من دون إلحاق الضرر بثبات الأسعار.

وبحسب القانون، تقضي مهمة المصرف المركزي الأوروبي بوضع السياسة النقدية لكل بلدان منطقة اليورو التي تستند إلى وضع «هدف للتضخّم» (Inflation Target) وإلى تقييم المؤشرات النقدية (Monetary Aggregates).

وإذا كان المصرف المركزي الأوروبي لم يعتمد عتبة للتضخم في العقد الماضي، إلّا أنّ خطر الإنكماش دفعه إلى التعلق بعتبة الـ 2% ودفعه إلى استخدام وسائل هائلة لمحاربة الانكماش.

ولاتخاذ قراراته يتّبع مجلس الحكام (Board of Governors) استراتيجية تنصّ على تحديد هدف للتضخم يسمح بثبات للأسعار (عادة أقل من 2%). ثم يُقيّم هذا الهدف على مستويين: الأول ويشمل ملاحقة المؤشرات النقدية خصوصاً الكتلة النقدية م3 التي تخضع لقيمة مرجعية يُثبتها المصرف المركزي. هذه المرجعية هي 4,5% لنمو الكتلة م3 ويتم إعادة النظر بها مرة في السنة. المستوى الثاني يشمل متابعة المؤشرات الاقتصادية والمالية بهدف تحديد اتجاهات تضخمية.

ويتمتع المصرف المركزي الأوروبي بأداتين لتنفيذ سياسته النقدية:

– السوق-المفتوح (Open-Market) وهو عبارة عن عمليات يقوم من خلالها المصرف المركزي الأوروبي بضخ (أو سحب) السيولة من الأسواق.

– التسهيلات الدائمة: وهي عبارة عن عمليات تقوم من خلالها المؤسسات المالية والمصرفية بإيداع الأموال أو اقتراضها من المصرف المركزي.

إضافة إلى هاتين الوسيلتين، هناك الإحتياط الإلزامي للمصارف التجارية لدى المصرف المركزي والذي يسمح للمصرف المركزي بواسطة تعاميم بزيادتها أو تقليلها. وتنتقل السياسة النقدية إلى الدورة الاقتصادية عبر التأثير المباشر على سعر السيولة (المدى القصير) أو التأثير غير المباشر من خلال التأثير على أسعار الأصول المالية الأخرى (المدى البعيد). وبالتالي، فإنّ فعالية هذه السياسة ترتكز بالدرجة الأولى على آلية انتقال السياسة النقدية (أنظر إلى الرسم).

لكنّ الأزمة المالية التي عصفت بالإقتصاد العالمي في العام 2008، وتبعتها أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو، والتي تزامنت مع تراجع النمو الاقتصادي بشكل كبير، أظهرت مُشكلة في استراتيجية المركزي الأوروبي حيث أنّ هذه الأخيرة كانت مُوجّهة أكثر باتجاه التضخم وليس الانكماش مع خطر التضخم السلبي.

وبالتالي، أصبحت إجراءات المصرف المركزي الأوروبي تتجه أكثر نحو زيادة التضخم. وهذا يُثبت أنّ السياسة النقدية تتطور مع الوقت حيث بدأت تتحول من سياسة تُدار بالأرقام (تقنية بحت) إلى سياسة مبنية على الثبات الاقتصادي.

وللتذكير، فإنّ أوّل هدف لدى الإحتياطي الفديرالي الأميركي يتمحور حول سوق العمل، وبالتالي الاقتصاد. من هنا نرى اتجاه المصارف العالمية إلى تقليد الإحتياطي الفديرالي الأميركي في إجراءاته التي اتخذها في فترة ما بعد الأزمة المالية العالمية في العام 2008.

وبالتالي، أصبحت السياسة النقدية في منطقة اليورو على النحو التالي: سعر فائدة قريب من الصفر، دعم متواصل للسيولة في الأسواق، دعم متواصل للقروض للقطاع الخاص بهدف المحافظة على مستوى استهلاك عال، وتسييل كمّي للديون السيادية. لكنّ الإجراء الجديد الذي اتخذه المركزي الأوروبي هو شراء سندات خزينة تابعة لشركات خاصة تستوفي عدداً من المعايير.

وبالتالي، نرى أنّ المركزي الأوروبي يستخدم كل الوسائل المُتاحة له في ظل التوكيل المُعطى له من قبل البرلمان الأوروبي، ما يعني أنه لم يعد هناك أيّ وسيلة فعلية لدعم الاقتصاد من قبل المركزي الأوروبي.

في الواقع يبقى هناك وسيلة أخيرة لكنها غير متاحة في القانون الأوروبي ألا وهي توزيع الأموال على الأسَر والشركات لدعم الطلب والإستهلاك. هذه الوسيلة صنّفتها ألمانيا بالخط الأحمر، وبالتالي من المُستبعد أن يعمد البرلمان الأوروبي إلى اعتمادها. إنّ هذه الإجراءات بالمطلق هي إجراءات صحية على الورق، وهي نابعة من صميم النظريات الاقتصادية (Quantitative Monetary Theories).

لكنها في الواقع تبقى من دون فعالية على الأرض، والسبب يعود إلى التباين في اقتصادات دول منطقة اليورو كما وحجم الديون السيادية لهذه البلدان. فبين الاقتصاد الألماني الصلب ودينه العام المقبول نسبياً والإقتصاد اليوناني الضعيف ودينه العام الهائل، من الصعب جداً على المصرف المركزي الأوروبي أن يعتمد سياسة نقدية واحدة تؤمن النمو الاقتصادي لجميع هذه الدول.

وبالتالي نرى أنّ المركزي الأوروبي يعتمد على سياسة إجمالية لكامل المنطقة تضرّ ببعض الإقتصادات وتخلق فيها تضخماً كما هو الحال في ألمانيا. أما في دول مثل البرتغال، فتُساعد الاقتصاد البرتغالي على الصمود أكثر في ظل ازدياد الدين العام فيه.

من هنا تأتي الإنتقادات الألمانية للمصرف المركزي الأوروبي ولحاكمه ماريو دراغي باعتبار أنّ الإجراءات الأخيرة ستضرّ بالإقتصاد الألماني، مُحرّك الاقتصاد الأوروبي.

وبالتالي نرى أنّ انتقادات الوزير الألماني حول الإفراط بالإستقلالية من قبل المركزي الأوروبي، تطرح السؤال عن قدرة هذا الأخير على وضع سياسة نقدية داعمة للإقتصاد بمعزل عن السياسة.

وتبقى التساؤلات الكبرى حول هوية الحاكم الذي سيتولى حاكمية المركزي الأوروبي بعد دراغي، والذي من المُتوقع أن يكون ألماني الجنسية. فهل سيتمكن الحاكم الجديد من استخدام الهندسة الألمانية في الماكينة النقدية؟